تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أثيرت الزوابع من كل حَدَبٍ وصَوْب حول فيلم (السِّت)؛ الذى خرج للنور لتَوِهِ ليجسد قصة حياة كوكب الشرق؛ وإن حققت هذه الزوابع ما تعجز عنه أعتى الحملات الدعائية؛ حيث تدافع الناس نحو صالات العرض بدافع الفضول؛ بأكثر منه تشكيلًا لموجة نجاح جماهيرية (تُعتبر)!.

الانطباع السائد من بداية الفيلم هو اهتمام صانعيه بفكرة الخروج بعمل يحمل مذاقًا عالميًا من الناحية الشكلية؛ ويتجلى ذلك فى زوايا التصوير، وأماكنها، وحركة الكاميرا، والإضاءة، والديكورات، والملابس، وحركة المجاميع، والموسيقى؛ فى محاولة لاصطياد لحظة زمنية ينبنى على أساسها استعراض مراحل حياة البطلة.

ولا يخفى على منصفٍ أو جاحد حجم الجهد الذى بذلته بطلة الفيلم للاقتراب من الشخصية الأصلية؛ ما يحتم الإشارة لجهدها الحثيث فى التوازن بين كفّة تجسيد شخصية هى لم تعاصرها أصلًا بحكم الفارق العمري؛ فى مقابل كفّة الهروب من فخ (التشخيص) لحفر بصمة أداء خاصة بها؛ تنبه المتلقى لكونِهِ فى رحاب عمل درامي؛ وليس اسكيتشًا للمحاكاة والتقليد الأعمى!.

الحبكة الدرامية للعمل تشعرك طوال الوقت بإصرار المؤلف على اختزال تاريخ ممتد متلاحق الأحداث فى اسكيتشات خاطفة للغاية؛ لم تسد رمق المتلقى لاستيعاب منطق السرد؛ ولم تتعرض للمسيرة الفنية للبطلة بالمعنى المرتقب؛ اللهم إلا من خلال طفولة (شبه مشردة)؛ فلا أثرَ لدعائم مسيرتها كالسنباطى، وعبدالوهاب، وبليغ، ونظرائهم من أساطين الشعر، والعزف؛ بل اتجهت الحبكة (بسذاجة) نحو جوانب شخصية عاطفية؛

مرََ المؤلف بقاطرتها على الأحداث المفصلية للمسيرة مرور الكرام؛ (متصورًا) أنه يلقى الضوء بذلك على أم كلثوم الإنسانة (مثلًا) كما لم نعرفها!! فرأى أن ينهال علينا بسيل من (فقاقيع) قصص عاطفية؛ ما إن تظهر، حتى تختفى إلى غير رجعة؛ بل ودون أن تترك أثرًا واحداً فى وجدان المتلقى أو بطلة العمل نفسها لخدمة الدراما؛

ما أعطى الانطباع بأنها كانت مهووسة عاطفيًا وحسب؛ بل وأوعز بأن ما أجبرها بالنهاية على الارتباط بطبيبها هو شعورها بالوحدة القاتلة، وفوات سن الزواج، وكذا اشتداد محنة المرض؛ فمنه زواج، ومنه على ما يبدو (متابعة علاجية)..وهذا مبرر مَعِيب!.

مُخرج العمل اختار مُدخل أجواء التوتر العصبى غير المبررة دراميًا بطول الفيلم؛ لاستعراض إمكاناته الإخراجية؛ سواء كان ذلك بفرط استخدام للمؤثرات الصوتية؛ أو سرعة حركة الكاميرا على نحو خاطف مزعج بصريًا؛ غافلًا أننا لسنا بصدد فيلم أكشن، بقدر ما نحن أمام فيلم يتناول سيرة ذاتية (لفنانة)؛ لا تحتمل الإمعان بمشاهد عنف؛ بل وأن منها ما لم يكن يستدعى المبالغة والتضخيم أصلًا؛ كمثل عُنف مشهد مهاجمة أم كلثوم على خشبة المسرح؛ وما تلاه من أحداث لا تتجاوز سقف اندفاع معجب نحو مطربته المفضلة؛ كحال عموم مهاويس المعجبين والمعجبات؛ وليس عملية اغتيال لأحد السياسيين مثلا!!

وكذلك جاء مشهد تحول الفرح الصعيدى إلى معركة طاحنة بالرصاص الحي؛ وأنا هنا لا أنتقص من براعة تقنيات الإخراج، بقدر ما أنتقد فرط العنف فى سياق درامى (لا يحتمله)؛ كان يتعين اقتياده نحو شواطئ عمق متوقَع بمسيرة (فنانة كبيرة)؛ الأمر الذى ألبس أداء بطلة الفيلم نفسها رداء خشونة وفجاجة؛ أوحت للبعض (بتعمد تشويه) الصورة الذهنية عن (السِّت)!.

الموسيقى التصويرية جاءت غريبة عن النسيج الدرامى (إلا فيما ندر)؛ حيث سكب مؤلفها طابع موسيقى الچاز الحديثة، وليست الكلاسيكية (وكانت هى الأنسب)، فى تعامله مع أحداث تاريخيّة قوامها فتاة ريفية بسيطة؛ تشق طريقها نحو النجاح؛ عبر بوابة مدينة تعج بمختلف الجنسيات وقتئذٍ؛ وتُصارِع هى الأخرى لتأكيد هويتها الكوزموبوليتانية Cosmopolitan؛

ويأتى مشهد قدوم الفتاة بالقطار إلى القاهرة للمرة الأولى نموذجًا صارخًا بحق لحجم التناقض بين الموسيقى ودراما الأحداث!. ولفرط ولع المخرج (الواضح) بموسيقى الفيلم، جاءت الموسيقى التصويرية هى الأعلى صوتًا فى كثير من المشاهد على حساب منطوق كلام الممثلين؛ ما (يضطرك) لتلصص النظر نحو النص المترجم على الشاشة؛ لاستبيان ما يقال!. انتقال الفتاة من ارتداء العقال والجلباب الريفى إلى الزيّ العصرى المتمدّن جاء متسارعًا، وغير منطقى، ولم يحظ بأى تمهيد درامى للمتلقي؛ أو بصيص مقاومة ثقافية (متوقعة) سواء من جانب فتاة لم تعتد هكذا زيَّا؛ أو من جانب والدها المُغرِق فى التقاليد الريفية شكلًا وموضوعًا؛

فنحن أمام حفل أرستقراطى بأحد القصور الفخمة؛ ثم أميرة (مجهولة) تقتادها نحو غرفة؛ فتبدِّل لها زيّها بيُسْرٍ مفرط؛ ولتستمر الفتاة، غير المتقِنة (لثقافة) هذا الزى أصلًا، فى ارتدائه بطول الأحداث اللاحقة وبمباركة الأب (المحافظ)؛ دون ثمة حنين للجذور أو قوة العادة؛ ويكأن الأمر اختُزل فى تغيير الجلباب؛ وليس تغيير العقلية!.

وكعادة التعجل فى تنفيذ الأفلام التاريخية، يَنصَب جُل الاهتمام على بطل أو بطلة المشهد، دونما اهتمام مماثل ببقية الممثلين بالمشهد نفسه؛ إذ تجد قصات الشعر، والملابس، وإكسسوارات المجاميع غير متقنة؛ فأنت أمام حفل لسيدة الغناء بالستينيات يحظى بكل الاهتمام بالأداء والإخراج، بينما تفاصيل مظهر الفرقة الموسيقية من خلفها يلامس عام 2025؛ وكذلك بدا جمهور القاعة؛ إذ جاء مظهرهم غير دال على الحقبة الزمنية المرادة!!

ولعل أبرز نموذج صارخ على هذا (الإغفال) هو مشهد الوليمة التى أقامتها الملكة الأم للمطربة؛ حيث انصب الاهتمام على أداء و زيّ الملكة الأم، وانهار (شكلًا وموضوعًا) فى اختيار (الأميرات) الجالسات بطول المنضدة نفسها!.

اللعب بتيمات غنائية من جُعبة أعمال أم كلثوم لخدمة الدراما لم يكن موفقًا؛ حيث تعامل المؤلف الموسيقى بمبدأ (الفقاقيع) اللحنية أيضًا؛ والتى سرعان ما راح يسكب عليها تآلفاته الوترية العريضة فيطمسها؛ إمعانًا فى استعراض إمكاناته الهارمونية؛ دونما ترك مساحة لاستنباط مغزى توظيف هذه الجملة أو تلك؛ أو حتى ترك مساحة سمعية لاستيعاب الأغنية الأصلية!.

وأخيرا.. للمفكر والأديب الإنجليزى، فيليب ستانهوب (المعروف بلورد تشيسترفيلد)، مقولة عبقرية مفادها أن: العقول الصغيرة مثل الميكروسكوب؛ تضخم الأشياء الصغيرة؛ ولا تستوعب الأشياء الكبيرة!!

والحقيقة أن هذا العمل لم يستوعب صُنّاعُهُ كونهم بصدد تناول شخصية (مصرية) كبيرة؛ عاصرت أحداثًا تاريخيّة مهمة؛ ولعبت دورًا محوريًا فى تشكيل وجدان (الأمة)؛ ما كان يستلزم دراستها بعمق (واحترام)؛ من قبل تجسيدها كامرأة فظة، حادة المزاج، نرجسية، متسلطة، دهينة وخَلوب!.

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية