تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

زراعة الشك وفن الأكاذيب

فى عالم لا تُحسم فيه المعارك بالجيوش والمدافع وحدها، تقف الدعاية كواحد من أخطر الأسلحة غير التقليدية التى صاغتها الأنظمة الاستخباراتية وأتقنتها وسائل الإعلام والسينما، إنها حرب تُدار على العقول، تُعيد تشكيل الحقائق وتُشوّه الأنظمة، لتخلق أعداءً وهميين وتُحطّم قادة، وتهدم دولًا من الداخل دون إطلاق رصاصة واحدة.

الدعاية ليست مجرد أكاذيب تُبث عشوائيًا، بل هى هندسة نفسية واجتماعية تستهدف القيم والمبادئ والأسس التى تقوم عليها الدول، إنها صناعة مُعقّدة تعمل بآليات مدروسة تستند إلى إستراتيجيات الاستخبارات ونفوذ الإعلام، وتستخدم السينما كأداة ثقافية قادرة على التأثير العميق على العقول وتغيير الإدراك.
منذ فجر التاريخ، كانت أجهزة الاستخبارات تُدرك أن الكلمة قد تكون أكثر فتكًا من الرصاص فى العصر الحديث، وأصبحت الدعاية الاستخباراتية نظامًا متكاملًا يُستخدم لتدمير الدول واستهداف الزعماء، وتعمل هذه الدعاية على زراعة الشكوك، وإثارة النزاعات الداخلية، وتصوير الدول المُستهدفة وكأنها بؤر فساد أو خطر على السلام العالمى.
 

أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو الحملة الإعلامية التى سبقت غزو العراق عام 2003، لقد قُدمت «أسلحة الدمار الشامل» كذريعة لتدمير دولة بأكملها، فى حين كانت الحقيقة خالية من أى دليل، لم تكن تلك مجرد معلومات خاطئة، بل كانت خطة محكمة لتحقيق أهداف استراتيجية، أسفرت عن سقوط العراق فى فوضى لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، ثم يخرج علينا تونى بلير، رئيس الوزراء البريطانى، بعد ١٣ عامًا من تدمير العراق ليعتذر عن «خطأ الغزو»، ويعترف بأنّ العراق لا يملك أسلحة كيماوية!

تُستخدم الدعاية الاستخباراتية أيضًا لإعادة تشكيل المجتمعات المستهدفة، ويتم استهداف الشباب، باعتبارهم المحرك الرئيسى لأى تغيير، عبر قنوات التواصل الاجتماعى التى تُضخّم الأكاذيب وتبث رسائل الانقسام. هكذا تتحول الدول إلى ساحات معارك نفسية، حيث تُزرع الفوضى دون الحاجة إلى جيوش على الأرض.

لم تكن السينما مجرد فنٍ برىء يهدف إلى الترفيه، بل أصبحت أداة إستراتيجية تُستخدم لصياغة الصور الذهنية التى تخدم أجندات القوى الكبرى. أفلام هوليوود، على وجه الخصوص، لعبت دورًا كبيرًا فى تشويه صورة أعداء الغرب، وتحويل الصراعات السياسية إلى قصص ذات بُعد أخلاقى، حيث يظهر البطل الغربى دائمًا كمنقذ للعالم.

أفلام الحرب الباردة، على سبيل المثال، كانت ساحة لإبراز «الشر السوفييتى» مقابل «الخير الأمريكى». هذه الصورة النمطية لم تكن مجرد خيال سينمائى، بل كانت جزءًا من إستراتيجية أكبر لإقناع الشعوب بضرورة استمرار الصراع والتسليح.

حتى اليوم، تُستخدم السينما كأداة لتوجيه العقول نحو تقبل التدخلات العسكرية والسياسية، ويُصور القادة المستهدفون كطغاة، والدول التى تُقاوم النفوذ الغربى كأنها تهديد عالمى، هذه السينما لا تستهدف الجماهير الخارجية فقط، بل تُهيئ الشعوب الغربية نفسيًا لتقبل سياسات حكوماتها دون مساءلة.

قبل أن تُسقط الدول تعمل الدعاية على تشويه رموزها وقادتها، يتم استهدافهم بحملات متواصلة تتهمهم بالفساد أو القمع أو حتى الفضائح الشخصية، بهدف فصلهم عن شعوبهم، هذه الحملات ليست عشوائية، بل تُنفذ بأسلوب منهجى لتحطيم الثقة بين قيادة الدولة والمواطنين، مما يُضعف النظام من الداخل.
الحملات التى استهدفت قادة مثل صدام حسين ومعمر القذافى ليست سوى أمثلة واضحة على ذلك، لم تكتفِ الدعاية بتشويه صورتهم، بل استمرت بعد سقوطهم فى إعادة كتابة التاريخ بطريقة تجعل من التدخل الخارجى يبدو مبررًا، بل وضروريًا.

الدعاية الكاذبة ليست مجرد وسيلة لتشويه الحقائق، بل هى أداة لإسقاط الدول بأكملها، يتم تضخيم أزمات اقتصادية أو اجتماعية، وخلق انقسامات داخلية على أسس طائفية أو عرقية، مما يؤدى إلى انهيار النظام.

أحداث الربيع العربى تُقدم درسًا قاسيًا عن كيف يمكن أن تتحول شعارات الحرية والعدالة إلى فوضى عارمة كانت وسائل الإعلام جزءًا أساسيًا من تلك الأحداث، حيث لعبت على أوتار الغضب الشعبى، بينما كانت أجهزة الاستخبارات تُدير المشهد من الخلف والنتيجة كانت سقوط أنظمة، وانهيار دول، وتحولها إلى ساحات مفتوحة للتدخلات الخارجية.

فى مواجهة هذا السلاح الفتاك، تحتاج الدول إلى إستراتيجية مضادة قائمة على الشفافية والتواصل الفعّال مع شعوبها لبناء وعى مجتمعى قوى يجعل الشعوب قادرة على تمييز الحقيقة من الأكاذيب، وهو ما تدعو إليه دائمًا القيادة السياسية باعتبار الوعى هو الجدار العازل لحماية الوطن فى مواجهة حملات الاستهداف، تلك هى الخطوة الأولى، بالإضافة إلى ذلك يتعاظم دور الإعلام الوطنى، بحيث يُصبح منصة لإظهار الحقيقة وكشف الأجندات الخفية، ولطالما كان إعلام الحقائق والمعلومات والتناول والتحليل الموضوعى هو الرابح فى مثل هذه المعارك. 

فى هذا العصر لم تعد الحروب تُخاض فقط بالسلاح، بل بالكلمة والصورة، الدعاية هى أخطر أسلحة العصر الحديث، لأنها لا تقتل الأجساد، بل تقتل الحقيقة، وتُشوّه العقول، وتُفكك الدول فى عالم تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والكذب، ويُصبح الوعى هو الحصن الأخير للدفاع عن الهوية والسيادة.

الدول التى تُدرك هذا التهديد هى فقط التى ستبقى صامدة فى وجه العواصف، أما الدول التى تتهاون، فإنها تُسلّم نفسها طواعيةً لأعداء لا يظهرون فى ساحات المعارك، بل يتحركون فى ظلال الشاشات والكواليس، ليعيدوا تشكيل العالم وفق أجنداتهم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية