تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > إسلام عفيفي > بريكس وحلم العدالة الغائبة

بريكس وحلم العدالة الغائبة

فى عالم يشهد إعادة رسم خريطة النظام الدولى، حيث تتصارع القوى الكبرى على النفوذ وتتصاعد التوترات الاقتصادية والسياسية، اتجهت مصر إلى ما هو أبعد من البقاء فى موقف الدفاع. قفزت خارج دائرة الاضطرابات التى حاولت بعض الدول محاصرتها فيها، وبَنَتْ علاقات استراتيجية تتجاوز حدودها الملتهبة؛ من تعزيز التعاون مع دول إفريقيا والقرن الإفريقى إلى شراكات مثمرة مع شرق المتوسط وأوروبا، وصولاً إلى توثيق العلاقات مع الصين وانضمامها إلى مجموعة «بريكس» الاقتصادية الصاعدة.

هذا التحرك الاستراتيجى ليس مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل هو تجسيد لرؤية مصرية جديدة، تنطلق من فهم عميق لمصالحها القومية وتطلعاتها الاقتصادية. وسط عالم مضطرب، استطاعت القيادة المصرية أن توازن بين احتياجات الأمن القومى ومشاريع التنمية والإصلاح الاقتصادى، وأن تحصّن نفسها من التداعيات الإقليمية، وتبنى جسوراً قوية مع الشرق والغرب على حد سواء. بهذا النهج، لم تعد مصر مجرد لاعب محاصر فى صراع إقليمي، بل أصبحت شريكاً فاعلاً على الساحة الدولية، تضع مصالحها المشتركة فى مقدمة أولوياتها.
 

فمصر، التى حاولت بعض القوى الإقليمية والدولية أن تحيطها بحدود جغرافية ملتهبة، وسط دول تنهار وأزمات تشتعل من حولها، أثبتت على مدى السنوات الأخيرة أنها ليست مجرد رقم على خارطة الشرق الأوسط، بل قوة إقليمية قادرة على تخطى الفخاخ التى نصبت لها. تلك القوى التى سعت لاستنزاف مصر عبر دفعها إلى مواجهات عسكرية مفتوحة على كل الجبهات، وجدت أن الدولة المصرية لا تزال متماسكة، قادرة على إدارة أزماتها بنجاح، بانفتاح حقيقى وواضح مع كل القوى الدولية على أسس من الاحترام المتبادل وتبادل المصالح، فى نهج يحظى بتقدير بالغ من كل الشركاء والأطراف.

فى الوقت الذى يتشبث فيه البعض بسياسة القوة وفرض النفوذ من خلال الصراعات المسلحة وتكتيكات الأمر الواقع، تشكلت على الجانب الآخر رؤية مغايرة تمامًا، رؤية تسعى إلى بناء عالم أكثر عدلاً وتوازناً. بينما تتهافت قوى عالمية على السيطرة والهيمنة بأى وسيلة، اختارت مجموعة من الدول أن تسير فى اتجاه مختلف، محطمة قيود النظام التقليدى الذى طالما عزز الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. هذه الدول لم تنخرط فى معارك السيطرة، بل التقت على مبدأ أساسى: التعاون والشراكة من أجل مستقبل اقتصادى مشترك، يحقق مصالح متوازنة ولا يقوم على الهيمنة أو فرض الإرادات.

وهناك، على ضفاف نهر الفولجا فى روسيا، اجتمعت دول «بريكس» لتبعث رسالة واضحة: العالم لن يبقى رهينًا لإرادات القوى الكبرى. هذه المجموعة، التى تضم قوى اقتصادية صاعدة مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، تسعى إلى بناء نظام عالمى جديد يتحدى المعادلات التقليدية التى لطالما اعتمدت على تكديس الثروات فى أيدى القلة. إنه تحالف لا يستند إلى القوة العسكرية، بل إلى القوة الاقتصادية، وهو يجسد فكرة أن الدول قادرة على تحقيق مصالحها من خلال التعاون والتكامل، بدلاً من الصدام والهيمنة.

فى هذا المشهد الجديد، تسعى «بريكس» إلى خلق واقع دولى أكثر عدالة، لا يُحكم فيه على الدول من قوتها العسكرية بل من قدرتها على تحقيق الازدهار لشعوبها. فالعدالة الاقتصادية التى ترفع «بريكس» لواءها ليست مجرد شعارات، بل هى خطوة عملية نحو كسر احتكار الثروات والقرار الدولى، وتمهيد الطريق نحو نظام اقتصادى عالمى يسمح بمشاركة أوسع، ومصالح أكثر توازنًا بين الشمال والجنوب. هذا التحالف يثبت أن العالم لا يحتاج إلى مزيد من الصراعات، بل إلى مزيد من التعاون الذى يحقق العدالة والتنمية للجميع.

من بين أهم الرسائل التى تبعثها مجموعة «بريكس» إلى الدول التى تسعى لفرض هيمنتها ونفوذها عبر أدوات الاقتصاد التقليدية، أن العالم يتغير، وأن هناك مساراً بديلاً لا يعتمد على المؤسسات المالية الكبرى التى طالما احتكرت التحكم فى مصير الاقتصادات. الفكرة التى تسعى «بريكس» لتطويرها بقوة هى بناء ما يمكن تسميته «جسر بريكس للتعاون المالى»، وهو جسر يتيح للدول الأعضاء وغير الأعضاء التحرر من قيود العملات العالمية التقليدية التى تفرض ضغوطاً هائلة على اقتصادات الدول النامية.

هذا الجسر يقوم على أساس تبادل التجارة بالعملات المحلية بين الدول، وهو ما يمثل خطوة ثورية فى عالم ما زال يدار إلى حد كبير بالاعتماد على الدولار أو اليورو. عبر هذا النهج، تطرح «بريكس» نموذجاً جديداً للتسويات المالية يتيح للدول فرصة أكبر للتحكم فى مسارها الاقتصادى، دون أن تكون مرتهنة لتقلبات العملات الكبرى التى تتحكم بها أسواق الدول المتقدمة. مصر، بدورها، كانت من أوائل الدول التى دعت إلى هذا الاتجاه، حيث نادت بأهمية تسوية المعاملات المالية بالعملات المحلية، كوسيلة لتحصين الاقتصاد الوطنى من الضغوط الخارجية التى تفرضها تقلبات العملات الأجنبية، وخلق نظام أكثر استقرارًا للتبادل التجارى.

هذه الرؤية لا تهدف فقط إلى كسر الاحتكار المالى الذى فرضته القوى الكبرى لعقود، بل تسعى أيضًا إلى تمكين الدول من اتخاذ قراراتها الاقتصادية بشكل أكثر استقلالية. ومن خلال تعزيز استخدام العملات المحلية فى التسويات المالية، تفتح «بريكس» المجال أمام بناء منظومة مالية عالمية جديدة تتيح للدول التعاون والتجارة دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على العملات الأجنبية. إنها دعوة إلى عالم أكثر تنوعاً، وأكثر عدالة فى توزيع الثروات والموارد، حيث تتمكن الدول من حماية اقتصاداتها دون الخضوع لضغوط السياسات النقدية العالمية.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية