تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الغاز بوابة عودة القاهرة إلى قلب لعبة الطاقة
في عالم تتحكم فيه الطاقة بموازين القوة، لا تأتي صفقات الغاز الكبرى مصادفة ولا تُقرأ في إطارها التجاري فقط، بل في سياقها الاستراتيجي الأوسع، مصر تعود إلى موقعها الطبيعي كلاعب محوري في سوق الطاقة الإقليمي والدولي، فالقاهرة تستعيد تدريجيًا دورها كحلقة الوصل بين الشرق الأوسط وأوروبا في زمن يشتد فيه الصراع على خطوط الإمداد وممرات الطاقة.
أول ما يجب التوقف عنده الآن فى الجدل الذى يتم استدعاؤه لتشويه دور مصر أنها أصبحت مركز إقليمي للطاقة، ليس بالشعارات، بل بالحقائق الملموسة على الأرض، موقعها الجغرافي الفريد، الممتد بين أهم مسارين للطاقة في العالم – قناة السويس شرقًا والبحر المتوسط شمالًا – يمنحها أفضلية استراتيجية يصعب منافستها لكنها لم تكتفِ بالاعتماد على الجغرافيا، بل استثمرت في تطوير بنية تحتية متكاملة لتسييل الغاز وتخزينه ونقله، ما جعلها منصة طبيعية لعبور الطاقة من حقول شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية التي تبحث عن بدائل عاجلة للغاز الروسي.
وهنا تبرز قوة مصر الناعمة في مجال تسييل الغاز، وهي ورقة لم تمتلكها إلا قلة من الدول في المنطقة مصانع الإسالة المصرية ليست مجرد أصول اقتصادية، بل أدوات تأثير استراتيجي، إذ تسمح لأي شركة أو دولة منتجة بالاستفادة من الأراضي المصرية كبوابة للتصدير، وهو ما يفسر إقبال الشركات العالمية على تجديد الاتفاقيات أو تعديلها للاستفادة من هذه البنية الفريدة ولولا هذه المصانع، لما تمكنت أي جهة من تمرير صفقات بهذا الحجم عبر الأراضي المصرية، ولما كان لمصر أن تتحول إلى ضامن رئيسي لتدفق الطاقة في واحدة من أكثر المناطق اضطرابًا في العالم.
مصر تدير ملف الطاقة بعقلية التنويع والكفاءة من الإنتاج المحلي إلى الغاز المستورد عبر الخطوط، وصولًا إلى الغاز المسال عبر السفن ووحدات التغييز الحديثة، تسعى القاهرة إلى بناء شبكة إمداد مرنة تمنع الارتهان لمصدر واحد هذه الاستراتيجية لا تقتصر على تأمين السوق المحلي وتغذية الصناعة ومحطات الكهرباء، بل تهدف أيضًا إلى تعزيز دور مصر كممر آمن للطاقة العالمية وجود سفن التغييز على الموانئ المصرية ليس إجراءً طارئًا، بل جزء من خطة مدروسة لتأمين إمدادات دائمة مهما كانت تقلبات الأسواق أو التوترات الإقليمية.
ومن المهم التنويه إلى أن ما جرى تداوله عن توقيع صفقات جديدة لاستيراد الغاز عبر الخطوط ليس دقيقًا؛ فالأمر يتعلق بتعديل اتفاقية قائمة منذ عام ٢٠١٩، تخص كميات متفق عليها مسبقًا بين الشركات المنتجة والناقلة هذا التوضيح ليس تفصيلًا هامشيًا، بل ضرورة لتجنب خلق انطباع بأن مصر تستورد الغاز لتعويض عجز هيكلي يهدد أمنها القومي، بينما الحقيقة أن جزءًا من هذه الواردات يُعاد تصديره ضمن استراتيجية تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتداول الطاقة، مع استخدام جزء آخر – عند الحاجة – في السوق المحلي لضمان استقراره.
الأبعاد الاستراتيجية لهذا الملف تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة فحين تتحكم دولة في مفاتيح الطاقة في إقليمها، تتحكم ضمنيًا في إيقاع الأحداث السياسية مصر اليوم ليست مجرد مستورد أو مصدر، بل لاعب قادر على التأثير في معادلات العرض والطلب، وبالتالي في قرارات العواصم الكبرى التي تعتمد على الغاز كمحرك لاقتصادها في زمن تتغير فيه خرائط الطاقة بسرعة، تصبح القدرة على إدارة التدفقات من الشرق إلى الغرب ورقة ضغط لا تقل قيمة عن أي تحالف سياسي أو اتفاق أمني.
ولعل التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على هذا الزخم وتطويره فالصفقات الكبرى لا تكفي وحدها لضمان استمرارية النفوذ إذا لم تُدعم بسياسات استثمارية واضحة، وشراكات طويلة الأمد، وتحديث دائم للبنية التحتية هنا، يبرز دور وزارة البترول والثروة المعدنية في تعزيز الإنتاج المحلي عبر تحفيز الشركاء الدوليين، وضمان جاهزية الشبكة القومية لاستيعاب مصادر متعددة، وتحويل مصر من "محطة عبور" إلى "مركز تحكم" في حركة الطاقة الإقليمية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية