تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الطريق إلى مقعد جنيف
نجت مصر من فخّ الدولة الفاشلة؛ لأنّها لم تُسلم مقودها للفوضى، ولم تتعامل مع الحقوق كخطاب رفاهية واختارت مسارًا أصعب: أن تُدير الأمن كحق، والتنمية كحماية، والخدمة كأساس للكرامة - هناك كثير مما يُمكن تحسينه وسيظل لكن مسطرة التقدّم ليست فى الضجيج ولا فى الإنكار، بل فى قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الضغط إلى نظامٍ عامٍ يعمل.
ليس سهلًا أن تنتقل دولةٌ محاطة باضطرابات إقليمية، ومثقَلة بتهديداتٍ أمنية متكرّرة، من سؤال البقاء إلى تفويضٍ دولى فى مجلس حقوق الإنسان بـ 173 صوتًا هذه النتيجة لا تُفهم بالأمنيات، بل بمنطق «قدرة الدولة» حين تُدار الحقوق كسياسة عامة شاملة، لا كملف دعائى أو نزاع لغوى،
والسؤال هنا مزدوج: كيف تفادت مصر فخّ «الدولة الفاشلة» رغم موجات التفكيك منذ 2011؟ وما الذى يجعل العضوية الأممية الجديدة أكثر من لافتة على حائط؟
1) من ضبط الفوضى إلى بناء القدرة:
الأمن بوصفه شرطًا للحق وليس نقيضًا لبعد 2011، انزلقت دولٌ عربية إلى خرائط موازية: ميليشيات، حدود رخوة، وخدمات أساسية تنهار. مصر واجهت العوامل نفسها: إرهاب لم يسبق ده مثيل، اقتصاد تحت الضغط، ومحيطٌ يرسل موجات عدم يقين متلاحقة، الفارق أنها اختارت مقاربة «تسلسل الأولويات»: تثبيت الأمن أولًا بوصفه حقًا عامًا -الحق فى الحياة والسلامة وحرية التنقل- ثم تحويل هذا الاستقرار إلى قدرة تنفيذية فى الخدمات والضمانات الاجتماعية.
المسألة ليست حكاية «قبضة» بل هندسة مخاطر: تحييد بؤر العنف، تحديث منظومات المراقبة والاستجابة، وإغلاق ثغرات كانت تُحوّل حادثًا جنائيًا إلى أزمة مجتمعية، لذلك لم يكن غريبًا حين يزور قادة أجانب القاهرة، أن تخرج شهادات علنية عن انخفاض معدلات الجريمة، وأن مصر أكثر أمنًا من دول صناعية كبرى. أهمية هذه الشهادة ليست فى المديح، بل فى تحويل «الانطباع الأمنى» إلى ثقة استثمارية وسياحية تقف وراءها مؤسسات قادرة لا شعارات.
2) لماذا لم تنهَر الدولة؟.. ثلاثة مفاتيح للقدرة:
أولًا، اتساق القرار: حين اعتُمد الأمن كحقٍ تأسيسى، لم يُترك منفصلًا عن الخدمة والاقتصاد؛ صُمِّمت البرامج بحيث تُغلِق حلقة الخطر: من ضبط الحيّز العام إلى تحسينه، لا الاكتفاء بتسكينه.
ثانيًا، مرونة التنفيذ: إدارة أزمات متلاحقة (إرهاب، جائحة، تضخّم عالمى) تتطلب تغيير أدوات بسرعة تمَّ ذلك عبر توسيع الحماية الاجتماعية مؤقتًا عند الذِروة، ثم إعادة ضبطها هكذا تتصرف الدول التى تتعلّم تحت الضغط.
ثالثًا، بناء سردية قابلة للاختبار: حين تقول الدولة إنها تُقدّم الحق فى السكن الآمن، يمكن اختبار ذلك بحصرٍ مُعلن للمناطق التى خرجت من دائرة الخطر. حين تتحدث عن خفض الجريمة، تُفصح عن اتجاهات المؤشر لا عن شعاراته.
3) حقوق تُقاس بالنتائج: من إزالة الخطر إلى توسيع الفرصة
التحدى الحقيقى كان: كيف تُترجم شرعية الأمن إلى شرعية اجتماعية؟ هنا بنت الدولة جسرًا من سياسات «الحق الملموس»:
- إزالة المناطق الآيلة للسقوط والعشوائيات الخطِرة لم تكن تحسينًا بصريًا للمدن؛ كانت منعًا لانتهاكٍ يومى لحق السكن الآمن، ونقل الأسر إلى وحدات بخدماتٍ أساسية يساوى تقليلًا مباشرًا لخطر الموت والمرض والوصم.
-«حياة كريمة» لم تُقدَّم كحزمة إنفاق موسمية، بل كتصحيحٍ جغرافى لفجوة التنمية: طرق، مياه، صرف، وحدات صحية ومدارس، وفرص عمل محلية تُبقى الناس حيث يعيشون بدل دفعهم إلى الهجرة القسرية داخل البلد.
- دعم العمالة غير المنتظمة فى ذروة «كوفيد» كان لحظة اختبار: هل تُترك فئات الهشاشة لقانون السوق أم تُحاط بشبكات إنقاذ نقدية وخدمية؟، اختارت الدولة الثانية، فامتصّت صدمة كانت كفيلة بتحويل الإغلاق إلى انفلات اجتماعى.
هذه السياسات لا تُنهى الفقر، لكنها تُغيِّر طبيعة الخطر: من خطرٍ وجودىٍّ على الحياة والكرامة إلى مخاطر يمكن إدارتها بمزيدٍ من الموارد والتحسين المؤسسى.
4) كسر ثنائية زائفة: الحقوق المدنية/السياسية بموازاة الاقتصادية/الاجتماعية
تعرف القاهرة أنها تخوض سجالًا ممتدًا مع من يسحب الملف الحقوقى إلى ميدان المناكفات، أو يختزله فى محور واحد: إما أن تتحدث عن حرية التعبير وإصلاح العدالة الجنائية، أو تتحدث عن الخبز والسكن والصحة. التجربة الأكثر واقعية تقول إن المسارين لا يتنافيان: إصلاح منظومة التقاضى، تحديث مراكز الإصلاح والتأهيل، تعزيز الإتاحة المعلوماتية والشفافية التدريجية هذه عناصر تُقوّى شرعية النظام القانونى، بينما تُكمّلها سياسات خفض الفقر وتحسين الخدمات.
الفارق بين الدعاية والسياسة أن الثانية تُقاس: كم منطقة خطرة أُزيلت؟ كم مواطنًا دخل مظلة الحماية الاجتماعية؟ ما زمن الاستجابة الشرطية؟ كيف تطوّرت مؤشرات وفيات الأطفال، وتسرب التعليم، والحوادث الجسيمة؟ حين تتوافر هذه المقاييس وتُنشر دوريًا، يصبح الدفاع عن التجربة رقميًا لا إنشائيًا.
5) من فخّ «التسييس» إلى فنّ «السياسة»: ماذا تفعل على مقعد جنيف؟
العضوية الجديدة ليست درعًا ضد النقد، بل منصة لصياغة تعريفٍ عملى للحقوق فى بيئات عالية المخاطر معنى ذلك ثلاثة مسارات متلازمة:
الدفع بمقاربة شمولية للحقوق: مدنية وسياسية، واقتصادية واجتماعية وثقافية، بدل انتقائية يقوم المجلس بتوظيفها سياسيًا لتصفية الحسابات.
ترسيخ مبدأ «الكونية مع مراعاة التباين»: المعايير واحدة، لكن أدوات التنفيذ تختلف بحسب عبء التهديدات، البنية المؤسسية، والحيّز المالى.
أولوية الوقاية وبناء القدرات: إنذار مبكر، دعم نظم الحماية الاجتماعية، وتمويل التنمية بوصفها سياسة حقوق، لا الاكتفاء بـ«المساءلة بعد وقوع الضرر».
هذا التحوّل من الدفاع إلى التأثير هو ما يجعل المقعد ولاية عمل لا لافتة شرفية.
6) الردّ على الانتقاد: من يقين الاتهام إلى يقين القياس
ثمة من يحاول تقييد حق الدولة فى تعريف أولوياتها الحقوقية بحججٍ سياسية أو أيديولوجية، وأحيانًا بمنصات ضغط تستخدم لغة «الكونية» لأغراضٍ انتقائية الردّ الأكثر إقناعًا ليس نفيًا غاضبًا، بل توسيع دائرة الحق: الحق فى ألا تسقط سقوف البيوت، فى أن تصل سيارة الإسعاف خلال دقائق، فى أن يجد العامل غير المنتظم سندًا عند التعطل، فى أن تُدار السجون وفق معايير إنسانية مُحدّثة، وفى أن تتقلص مساحة الجريمة المنظمة هذه حقوقٌ مساوية فى القيمة لحقوق التعبير والتنظيم، ولا تُقدَّم بدلًا منها بل معها.
7) الامتحان التالى: تحويل التفويض الدولى إلى «سياسة قابلة للتكرار»
الفوز بـ 173 صوتًا يضع أمام القاهرة جدول أعمال داخليًّا: بتحديث الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بما يعمّق مسارات العدالة الجنائية، تمكين المرأة والشباب وذوى الإعاقة، وتوسيع الشفافية والبيانات المفتوحة عن الخدمات وهو المسار الذى تنتهجه الدولة ومؤسساتها، وخارجيًا: توظيف المقعد لقيادة أجندة الحقوق والتنمية والأمن الوقائى فى جنوبٍ عالميٍّ يبحث عن نموذج بديل للثنائيات الحادة.
المعيار الفاصل سيكون القدرة على القياس والتعلّم: نشر مؤشرات تقدم دورية، مراجعات مستقلة تُغذى القرار، وإبقاء قنوات المجتمع المدنى (المسئولة لا المؤدلجة) شريكةً فى تصميم الحلول ومراقبة الآثار والنتائج.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية