تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
يكرهون التاريخ .. ويفضلون الأسطورة!
من الواضح أن الأمل الذى راود البعض خلال السنوات الأخيرة فى الوصول إلى حل مناسب للقضية الفلسطينية، وإن لم يكن عادلا، يضمن على الأقل للفلسطينيين حقهم المعترف به من العالم كله فى دولة يقيمونها فى الجزء الذى بقى لهم من وطنهم، وفى وضع حد للصراع العربى الإسرائيلى الذى لن ينتهى بانتصار عسكرى أو حتى باتفاق يتم بينهما، لأنه صراع معقد تتشابك أطرافه، وتمتد جذوره فى الماضى وتداعياته فى الحاضر، فلا يفصل فيه إلا الزمن - الذى ينظر فيه على مهل، ثم يصدر فيه حكمه العادل، فيحق الحق ويبطل الباطل - أقول إن هذا الأمل الذى راود البعض لم يعد له فى هذه الأيام التى نشهد فيها ما يحدث فى غزة ما يغرى بانتظار خطوات عملية تبرره.
ونحن نعرف أن مساحة الاعتراف العربى بإسرائيل قد اتسعت وتضاعفت، وفى مقدمة المعتر فين أصحاب الحق الفلسطينيون ومعهم ست دول عربية. وهى خطوة اعتبرت تحولا جوهريا فى الموقف العربى، وبدت كأن وراءها مقابلا متفقا عليه يقدمه الطرف الإسرائيلى ويعترف فيه للفلسطينيين بحقهم فى كيان وطنى يقيمونه فى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى حرب يونيو، وهى لا تزيد على خُمس مساحة فلسطين التى أقام الإسرائيليون دولتهم على أربعة أخماسها.
لكن الأيام مضت دون أن يقدم الطرف الإسرائيلى هذا المقابل المتواضع، ودون أن يعترف للفلسطينيين بحقهم فى هذه الأرض التى كانت دائما وطنا لهم ولآبائهم وأجدادهم الذين استوطنوها فى الألف الرابع قبل الميلاد. الإسرائيليون لا يعترفون حتى الآن لهؤلاء بحقهم فى فلسطين، فى الوقت الذى يعترف فيه الفلسطينيون والعرب الآخرون بكيان لم يكن له أى وجود فى عصرنا هذا إلا منذ خمسة وسبعين عاما، ولم يتحقق هذا الوجود إلا بواسطة المحتلين الإنجليز الذين مكنوا الصهيونيين القادمين من أنحاء أوروبا من إقامة مستعمراتهم ومن إنشاء دولتهم على أشلاء الوجود الفلسطينى.
صحيح أن العبرانيين أسلاف اليهود دخلوا فلسطين غزاة وأنشأوا فى الألف السابق على الميلاد دولا عاشت عدة قرون وسقطت آخرها فى أوائل القرن الأول الميلادى، وغادرها سكانها اليهود وتفرقوا فى أنحاء العالم فلم يبق منهم فى فلسطين إلا أفراد قلائل بلغ عددهم فى القرن السادس عشر الميلادى مائة وخمسين فردا، ولم تزد نسبتهم إلى العرب الفلسطينيين فى القرن التاسع عشر عن اثنين فى المائة كما ذكر القنصل البريطانى فى القدس فى رسالة بعث بها إلى وزارة الخارجية البريطانية. لكن الإسرائيليين الذين يعرفون تاريخهم جيدا يتصرفون وكأنهم لا يعرفون التاريخ، لا تاريخهم ولا تاريخ غيرهم. ذلك لأنهم لا يحبون التاريخ، ويفضلون عليه الأساطير. فالتاريخ يسجل ما حدث فى الواقع، وهم يكرهون الواقع ويديرون له ظهورهم، أما الأساطير فحكايات ينسجونها بخيالهم لتوافقهم وتشهد معهم وتزين لهم ما يريدون أن يفعلوه. التاريخ يشهد للفلسطينيين بأنهم كانوا هنا فى فلسطين طوال العصور الماضية، والإسرائيليون لا يريدون أن يسمعوا هذه الشهادة التى تكذبهم حين يقولون إن فلسطين كانت أرضا بلا شعب فهى لهم، لأنهم شعب بلا أرض!.
والتاريخ يتعامل معهم كما يتعامل مع كل البشر، فالجميع أولاد آدم، لكن الإسرائيليين يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأن الله فضلهم على العالمين، ووعدهم بهذه الأرض وأعطاهم الحق فى أن ينتزعوها من أيدى أصحابها، وأن يفعلوا بأصحابها ما يفعلونه الآن فى غزة، وما فعلوه من قبل فى قبية، وفى دير ياسين، ومافعلوه فى فلسطين القديمة وفى أهلها الكنعانيين الذين كان على اليهود أن يبيدوهم كما أمرهم إلههم يهوه. وفى هذا تقول التوراة فى سفر التثنية «متى أتى بك يهوه إلهك إلى الأرض التى أنت داخل إليها لتمتلكها، وطرد شعوبا كثيرة من أمامك: الحيثيين، والجرجاشيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين. سبعة شعوب أكثر وأعظم منك، ودفعهم يهوه أمامك وضربتهم، فإنك تحرمهم - أى تبيدهم .. لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم». وكذلك تحدثنا التوراة فى سفر يشوع عما فعلوه فى مدينة أريحا الكنعانية. يقول «وحرموا - قتلوا - كل ما فى المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ. حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف»! وكذلك يفعلون فى غزة الآن كما فعلوا فى طول فلسطين وعرضها، وإلا فكيف تفسر خروج شعب بكامله رجاله ونسائه وأطفاله من مدنه وقراه إلى حيث لا يعرف أين سيجد الملجأ؟ وأين سينتهى به المطاف؟!
أعرف بالطبع ما يمكن أن يرد به الإسرائيليون على ما قلته، سيقولون إنهم يردون بالمثل على ما قامت به حماس. والواقع أنهم انتهزوا ما قامت به حماس ليشنوا حرب الإبادة على أهل غزة جميعا لا على مقاتلى حماس الذين أعدوا أنفسهم لمواجهة أعدائهم، أما أهل غزة الذين تنهال القنابل والصواريخ على منازلهم ومدارسهم ومتاجرهم ومستشفياتهم من البر والجو والبحر ليلا ونهارا فكيف يحمون أنفسهم ولمن يلجأون؟
وأنا لا أدافع عن حماس، وإنما أدافع عن الشعب الفلسطينى، وأدين ما يتعرض له ليس الآن فقط، بل منذ بدأ الصهيونيون يتدفقون على فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى ويبنون مستعمراتهم فى حماية المحتلين الانجليز من ناحية والمنظمات اليهودية المسلحة من ناحية أخرى حتى نجحوا فى بناء الدولة الصهيونية.
ومع أنى أعتقد أن إسرائيل كيان استعمارى ملفق بالكامل، شعب مؤلف من شعوب الغرب والشرق والشمال والجنوب، لا تاريخ يجمعه ولا ثقافة إلا الديانة التى لا تشكل وحدها جماعة قومية، وأرضا منتزعة بالقوة من أيدى أصحابها الذين يقفون غير بعيد عنها محرومين من الاقتراب، وعجز بالتالى عن الاندماج فى المنطقة - مع هذا أرفض العدوان على المدنيين الإسرائيليين الذين نعرف أن فيهم ضمائر معذبة، وفيهم قوى تطالب بالسلام، وتدافع عن حقوق الفلسطينيين، وتدين السياسة الإسرائيلية الاستعمارية. وفى الأسبوع المقبل أحدثكم عن مقالة نشرتها صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية للروائى الإسرائيلى دافيد جروتسمان يندد فيها بحكومة نيتانياهو وبالجرائم التى ترتكبها.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية