تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

نحن نعرف مكاننا فى هذا العالم

فى مقالتى السابقة تحدثت عن فوز مصر فى الشهر الماضى بالمنصبين الرفيعين اللذين فازت بهما فى منظمتين دوليتين تسهران معا على دعم الثقافة الإنسانية، ونشر العلم، والنهوض بحرية الرأي، والدفاع عن حقوق الإنسان، وهما منظمة اليونسكو التى انتخب الدكتور خالد العنانى وزير الآثار والسياحة الأسبق رئيسا لها، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذى انتخبت مصر عضوا فيه بأغلبية مماثلة للأغلبية التى فزنا بها فى اليونسكو، وكادت تكون ـ هنا وهناك - إجماعا تكرر فى شهر واحد. وهذا ما آثار شعورى بالفرح العميق الذى عبرت عنه.

 

هذا الفوز العظيم، وهذا الاعتراف بالجدارة لم يكونا موقفا عابرا صدر عن جهة واحدة لا تمثل إلا نفسها، وإنما كان تعبيرا عن صورتنا كما يراها العالم كله ويجدنا فيها أهلا للفوز بالمنصبين. فنحن بما قدمناه فى العصور الماضية، وبما نستطيع أن نقدمه فى هذا العصر جديرون بأن نكون رعاة أوفياء للثقافة الإنسانية، وحماة أوفياء لحقوق الإنسان. ومن الطبيعى أن يثير هذا الفوز المتكرر شعورنا بالفخر والاعتزاز، ليس لأننا أصبحنا نحتل به أرفع المناصب فى العالم، بل لأن النشاط الذى سنمارسه بناء عليه هو الغاية المقصودة من النشاط البشرى فى كل الميادين منذ بداية التاريخ، إلى اليوم، وهو السمو الروحى الذى يسعى لبلوغه البشر أفرادا وجماعات. من هنا عبرت عن فرحى بهذا الفوز، وعن أمتنانى لدول العالم التى صوتت إلى جانبنا بالثقة التى أولتنا إياها. لكن الفرح لم يستأثر بمشاعري، ولم يتحول إلى خيلاء لا حاجة لنا بها، وإنما صاحبه وتعادل معه شعور قوى نحتاج له أشد الاحتياج، وهو الشعور بالمسئولية يثيره فى نفسى الحرص على أن ننجح فى أداء الرسالة لتزداد ثقة العالم بنا، وليتأكد من أعطونا أصواتهم ومن حجبوها معا من أننا كنا جديرين بهذه الثقة، وأن هؤلاء وهؤلاء كانوا فى حاجة لما أنجزناه وأديناه. ولنعرف نحن أيضا أننا اجتزنا هذا الامتحان بنجاح، وأثبتنا أننا نعرف تاريخنا ونتمثل تراثنا الثقافى والأخلاقي، وأننا أوفياء لهذا التاريخ قادرون على أن نواصله، وأن نؤكده ونضيف إليه. ومن هذا الشعور بالمسئولية، وهذا الحرص على النجاح يفرض علينا نفسه هذا السؤال الذى لا يجوز لنا أن نتجاهله أو نتردد فى الإجابة عنه، وهو: هل نستطيع بالفعل أن نتحمل هذه التبعة؟ وأن نؤدى هذه الأمانة؟

وجوابي: نعم، نستطيع! إذا كان المقصود بالنجاح العمل الدائب فى خدمة الثقافة الإنسانية، والدفاع الدائم عن حقوق الإنسان.

ونحن نعرف جميعا أن العالم ليس رأيا واحدا، وليس جهة واحدة، لا كما هو الآن، ولا كما كان منذ بداية التاريخ، لأن الحياة الانسانية ليست أفكارا وقيما ومبادئ فحسب، وإنما هى أيضا مصالح مختلفة، وأطماع، وقوى تتعارض وتتتناقض وتتصارع. والعالم الذى أنجب بتاح حتب، وسقراط، وابن رشد، وجاليليو، وفولتير، وجان جاك روسو، وبرنارد شو، ومحمد عبده هو العالم الذى أعدم سقراط، وأحرق كتب ابن رشد، وسجن فولتير، ونفى محمد عبده، واغتال فرج فودة، وصنع بنجيب محفوظ وبنصر حامد أبو زيد ما صنع. لكن الثقافة الإنسانية تظل قادرة دائما على تحدى الظلمات وتجاوزها، كما تظل حقوق الإنسان تفرض نفسها على كل القوى المتخلفة، وتؤكد حضورها وفاعليتها يوما بعد يوم. وهنا أستشهد بالأسطورة المصرية الشهيرة التى جسدت هذا الصراع بين قوى النور وقوى الظلام، بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين القبح والجمال. وسوف أقدمها بإيجاز نقلا عن الترجمة العربية لكتاب عالم المصريات الأمريكى روبرت آرموار «آلهة مصر القديمة وأساطيرها».

كانوا أربعة إخوة أنجبهم إله الأرض جب، ونوت إلهة السماء، أوزوريس، وإيزيس، وست، ونفتيس. وقد اختار كل منهم طريقه. أوزوريس تزوج إيزيس واختار معها طريق الخير والمحبة، فعلم المصريين زراعة القمح والشعير والكروم، ووضع القوانين التى تنظم السلوك، واخترع حروف الكتابة، والحساب، والموسيقى والنحت، والفلك. وبعد أن شعر بالرضا عما قدمه لشعبه ووطنه قرر أن يحمل هذه الحضارة التى اكتشفها للبلاد الأخري، فسار بجيشه وأصدقائه إلى الجنوب مصحوبا بمجموعة من المهرجين والموسيقيين والراقصين، وقام بتعليم سكان البلاد التى مر بها أساليب الزراعة، وبناء المدن، وصناعة الجعة من الشعير. ثم عبر البحر إلى جزيرة العرب، ثم واصل الى الهند حيث بنى مدنا وزرع مساحات من الأرض، ثم رحل عبر مضيق الدردنيل. هذه الإنجازات العظيمة التى حققها أوزوريس ببحثه عن الخير ومحبته لكل البشر أثارت غيرة أخيه الشرير ست ـ ويقال إن هذا الاسم هو الأصل فى تسمية الشيطان باسمه الذى يعرف به فى لغتنا العربية وفى لغات أخرى كالفرنسية satan هذه الغيرة تحولت إلى كراهية شديدة دفعت ست للبحث عن حيلة يتخلص بها من أخيه ويحل محله فى العرش وهداه خياله الشرير لصنع تابوت استدرج إليه أوزوريس ليجرب فيه طوله فاستجاب أوزوريس بقلبه النقى الذى لم يفطن لما ينويه أخوه الشرير الذى أغلق التابوت على أوزوريس ثم حمله وألقى به فى النيل الذى سار به الى البحر الذى حمله بدوره حتى ألقى به على شاطئ بيبلوس فى لبنان. وتبحث إيزيس عن زوجها فتعرف ما حدث له وترحل إلى لبنان لتعود بجثمانه إلى الوطن وتتحول إيزيس الى طائر يرفرف فوق جثمان زوجها وتحط عليه فتتحقق المعجزة وتحمل إيزيس بحورس، وتتوالى الأحداث فيولد الطفل وينمو، ويشتد الصراع ويصل الى غايته حين يواجه حورس عمه الشرير ويثأر لأبيه ويخلص البشر من شره، لأن «الاستبداد والتعسف ليسا هما القوتين اللتين تسودان العالم ـ كما يقول الأستاذ الألمانى أدولف إرمان فى كتابه «ديانة مصر القديمة» ـ بل الحق والإخلاص».

ونستطيع هنا أيضا أن نستشهد بما جاء فى القرآن الكريم فى سورة «المائدة» عن ولدى آدم قابيل وهابيل «إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر الذى طوعت له نفسه الشريرة أن يقتل أخاه «فقتله فأصبح من الخاسرين». وهذا هو العالم من قابيل وهابيل إلى أوزوريس وست. ومن سقراط وقضاة أثينا إلى ابن رشد وفقهاء قرطبة. ومن نلسون مانديلا والعنصريين البيض فى جنوب إفريقيا إلى شهداء غزة والصهيونيين القتلة فى فلسطين.

ونحن نعرف مكاننا فى هذا العالم. نحن أبناء أوزوريس، وتلاميذ ابن رشد، وأشقاء الشهداء الفلسطينيين.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية