تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

ونحن نحتفل بأم كلثوم فى الذكرى الخمسين لرحيلها أجد نفسى نهبا لشعور بالتقصير فى حقها، لأنى تأخرت كثيرا فى الاستماع إليها كما يجب أن يكون الاستماع لأم كلثوم، وأنا الخاسر بالطبع، لأن أم كلثوم لم تكن تغنى لى أو لغيرى، وإنما كانت تغنى قبل كل شيء لنفسها، وتجد الجواب الصادق من نفسها قبل أن تجده من غيرها. وهى مع ذلك ترى العالم كله ينتظرها ويسمعها ويطرب ويهتف ويستعيد، فإذا كنت قد تأخرت فى السعى لهذا اللقاء الحميم الذى تحقق لى مع صوتها فى هذه الأيام فأنا الذى خسرت من قبل، وأنا الذى أنعم به الآن وأطرب وأغتنى وأشعر كأن هذا الصوت المفعم المطرب كان دائما معى، وكنت دائما معه. وكأن أم كلثوم كانت تعرف حاجتى لصوتها قبل أن أعرف أنا هذه الحاجة، وكانت تلبيها كما تفعل الآن بعد أن أسلمت نفسى لها وجلست أسمع وأعود لما سمعته فأسمعه، ثم أسمعه من جديد فأرى جمالا لا ينفد، واكتشافا يفضى بى إلى اكتشاف، وروعة تطير بى، وتحلق، وتسلمنى لما هو أروع وأروع.

 

وربما كنت مبالغا وقاسيا على نفسى وأنا أتحدث عن تأخرى فى التعرف على صوت أم كلثوم، لسبب بديهى هو أن هذا الصوت كان دائما موجودا فى حياتنا، وكنت أسمعه دون أن أقصد، كما كان المصريون وغير المصريين يسمعونه، لأنه يملأ الآفاق من حولنا، ويسترعى الاسماع وحتى الأنظار، فكأنه صوت مرئى تستطيع أن تتلقاه بحواسك كلها، نعم صوت أم كلثوم ليس صوتا مسموعا فقط، بل هو صوت متجسد يأتى حاملا معه مصدره، وهو أم كلثوم التى لم تكن تغنى بحنجرتها وحدها، بل كانت تنفعل هى مع غيرها بالأغنية، ألحانا وكلمات فتغنيها بكل كيانها الذى يتجسد فى هذا الصوت ويخاطب فيمن يسمعه كيانه كله، فيمتعه ويطربه ويهزه من الأعماق، وهكذا رأيت أم كلثوم فى صوتها، ورأيتها فى جمهورها الواسع الذى كان يستمع إليها فى البيوت والمقاهى والطرقات.

كنت طفلا لم أبلغ العاشرة بعد من عمرى حين بدأ صوت أم كلثوم يصل إلى ويستوقفنى لأسمعه وأراه فيمن يستمعون إليه، خصوصا فى المواسم والأعياد التى كانت فيها بلدتنا الريفية ترتدى أجمل ثيابها وتتحول إلى مدينة صغيرة زاهية عامرة بالشوارع المضيئة والمحال والمقاهى الساهرة، وبأهلها الذين يتحولون إلى جمهور حاشد يغنى مع أم كلثوم ما كانت تغنيه فى أربعينيات القرن الماضى، هلت ليالى القمر، وولد الهدى، ويا ليلة العيد يا ليلة العيد أنستينا، وجددتى الأمل فينا، هلالك هل لعنينا، فرحنا له وغنينا، حرام النوم فى ليلة العيد!

لكن كل شىء تغير وأنا أنتقل من الطفولة إلى الصبا، ومن المراحل الأولى فى الدراسة إلى المراحل التى تليها، ومن الحياة مع أسرتى إلى الحياة وحدى فى المدينة التى انتقلت إليها لأتابع دراستى، وأبدأ محاولاتى الأولى فى نظم الشعر متأثرا بالرومانتيكيين المصريين الذين استأثروا بى وبجيلى كله فى أربعينيات القرن الماضى وخمسينياته الأولي. وهكذا وجدت نفسى مفتونا بمحمد عبدالوهاب الذى يتفق دون شك مع أم كلثوم فى جوانب، لكنه يختلف عنها فى جوانب أخرى، منها هذا الجانب.

أم كلثوم هى بنت طماى الزهايرة القرية التى ولدت فيها ونشأت وتربت وتعلمت الغناء، أول ما تعلمته على يد والدها المنشد الريفى إبراهيم البلتاجى، وبعده على يد الشيخ أبوالعلا محمد، وبدأت مسيرتها الفنية بالملابس البدوية، الكوفية والعقال، حتى انتقلت هى وأسرتها إلى القاهرة وهى فى السابعة عشرة من عمرها، حيث تعرفت على الشاعر الشاب أحمد رامى الذى غنت له من تلحين الشيخ أبوالعلا قصيدته «الصب تفضحه عيونه» قبل أن تعرفه. وقد أصبح رامى من أقرب الناس والشعراء إليها، وهو الذى عرفها على الشعراء الذين غنت لهم.

أما عبدالوهاب فهو ابن القاهرة. ولد فى حى باب الشعرية ونشأ فيه وتربى، وبدأ حياته الفنية بأغنيات الشيخ سلامة حجازى، وتعرف على سيد درويش، والتحق بنادى الموسيقى العربية الذى أصبح معهدا، حيث تعلم العزف على العود على يد محمد القصبجى، والموشحات على يد الشيخ درويش الحريرى، وتعرف على الرجل الذى فتح أمامه أوسع الأبواب فى الثقافة والفن والحياة، وهو أمير الشعراء شوقى، وسافر بصحبته مرات إلى باريس، ولبنان، وهو الذى وجهه لدراسة ما درسه فى الموسيقى العالمية، وتعلم ما تعلمه من اللغة الفرنسية، وبهذه الثقافة شق عبدالوهاب طريقه الذى اختلف عن طريق أم كلثوم.

أم كلثوم كانت حريصة على مخاطبة الذوق الكلاسيكى والشعبى، سواء بالنصوص التى كانت تغنيها باللهجة الدارجة أو بالقصائد التى اختارتها من شعر الشريف الرضى، وأبى فراس الحمدانى، والعباس بن الأحنف، وصفى الدين الحلى، وابن النبيه المصرى، وعبدالله الشبراوى، ومن شعر شوقى الذى غنت من قصائده الدينية والوطنية، كما غنت لحافظ قصيدته «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدي»، وفى هذا الجانب يختلف عبدالوهاب عن أم كلثوم.

صحيح أن عبدالوهاب تتلمذ على يد شوقى، وشوقى هو زعيم الكلاسيكية الجديدة فى زمنه، لكن شوقى تعلم من الرومانتيكيين الفرنسيين وتأثر بهم فى جانب من شعره، وبهذا الجانب تأثر عبدالوهاب كما تأثر بشعراء جيله الذين وجدوا فى الرومانتيكية التعبير الأمثل عن أفكارهم وعواطفهم وإيمانهم بالتجديد، وهكذا غنى عبدالوهاب للرومانتيكيين المصريين واللبنانيين والمهجريين، على محمود طه، وإبراهيم ناجى، ومحمود حسن إسماعيل، وأحمد فتحى، وكامل الشناوى، والأخطل الصغير، وإيليا أبوماضى، طبعا غنى لبعض القدماء، لمهيار الديلمى، وصفى الدين الحلى، وغنى أولا لشوقى، لكنه اختار من شوقى قصائدة الوجدانية القريبة من الشعر الرومانتيكى.

وكما أحب عبدالوهاب الشعر الرومانتيكى الذى تأثر فيه الشعراء العرب بالشعراء الأوروبيين أحب الموسيقى الأوروبية وتأثر بها فاستخدم آلاتها وطعم ألحانه بإيقاعات الرومبا، والفالس، والتانجو. وكما فعل عبدالوهاب فعل تلاميذه. وفى هذا المناخ بدأت طريقي. فتنت بعبدالوهاب وتأخرت فى الاستماع لأم كلثوم كما يجب أن يكون الاستماع لها.

وسوف نواصل مع أم كلثوم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية