تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
كلمة عن الكتاتيب
أريد أن أتحدث عن الكتاتيب، وأرجو أن يتسع صدر السيد وزير الأوقاف لحديثى الذى لا أقصد فيه إلا وجه مصر، ووجه المستقبل، ووجه الأجيال المصرية الجديدة التى تحتاج لتعليم يمكنها من أن ترث حضارة أجدادها القدماء وتحييها، وأن تنعم بحياة رخية متقدمة فى هذا العالم الذى يتطور كل لحظة ويتغير.
وأبدأ.. فأقول إنها كانت مفاجأة لم نتوقعها، وكدت أقول لم نصدقها، حين أعلن السيد الوزير مشروعه بإعادة إنشاء الكتاتيب، وأنه أنشأ بعضها بالفعل، وهو مشروع وقفت أمامه مستغربا أحاول أن أفهمه مما قاله الوزير، ومن ردود الفعل التى ظهرت حتى الآن ، واستشعرت فى بعضها خوفا مشروعا من أن تكون عودة الكتاتيب إيذانا بالعودة بالتعليم، خاصة فى الريف والأوساط الشعبية، إلى ما كان عليه قبل إنشاء المدارس والمعاهد التى مكنتنا من النهوض وبناء دولة وطنية حديثة تقدمنا بها إلى الأمام فى مختلف المجالات، وبعد أن أصبحت مجانية التعليم بمستوياته المختلفة حقا مشروعا وأمرا واقعا.
> > >
ونحن نرى أن هذا المشروع ظهر بقرار من وزير الأوقاف وبدأ تنفيذه فى غيبتنا، لأن الوزير لم يطرحه للمناقشة، وربما توقع، كما يبدو أن مشروعه مقبول دون تفكير أو مراجعة، لأن تحفيظ القرآن الكريم عمل يرحب به الجميع، ولاشك أننا فى حاجة لحفاظ نستعين بهم فى أداء شعائرنا الدينية، لكننا فى أشد الحاجة لتعليم يتلقاه كل المواطنين ليؤدوا به ما يجب عليهم أداؤه نحو أنفسهم، ونحو شعبهم ووطنهم، وهذا لا يتحقق فى الكتاتيب، وإنما يتحقق فى المدارس التى أنشأتها الدولة لتزود المصريين بالقدر الكافى من العلوم والفنون التى تتيح لهم أن يكتشفوا مواهبهم وملكاتهم وينموها بكل جديد، وأن يعيشوا فى هذا العصر ويتمتعوا بكل ما حققه فيه البشر لأنفسهم فى كل المجالات العملية والفكرية والسياسية.
ونحن لم نقرأ شيئا عن حدود هذا المشروع الذى أعلن السيد الوزير البدء فى تنفيذه، لا عدد هذه الكتاتيب المراد إنشاؤها، ولا الشروط المطلوبة، فيمن يلتحق بها، ولا البرنامج الدراسى المعد للتنفيذ، ولا الوظائف الشاغرة المنتظر أن يعين فيها من سيتخرجون فى هذه الكتاتيب، ولا السادة المعلمون أو «الفقهاء» الذين سيتولون التدريس والتحفيظ، ولا مؤهلاتهم، ولا الميزانية المخصصة لتنفيذ هدا المشروع الذى يطرح فى وقت نسمع فيه ونقرأ عن مشروعات وأفكار أخرى خاصة بالتعليم تدعو للتساؤل والشعور بالقلق والجزع، ومنها المشروع الذى أعلن عن إحلال البكالوريا محل الثانوية العامة، ومنها النظر فى إلغاء مادة الفلسفة من برنامج الدراسة الثانوية، وقد بدا كأن التفكير فى إلغاء الفلسفة هو الوجه الآخر المكمل لإنشاء الكتاتيب!..
وهى قضية كانت مثارة طوال القرنين الماضيين حين نادى الإمام الفيلسوف محمد عبده بإصلاح برامج التعليم فى الأزهر وإدخال علوم العصر فيها، حتى يستطيع المتخرجون فى هذا المعهد العريق أن يشاركوا فى النهضة الحديثة التى تحتاج لمن يتعلمون الطب، والهندسة، والفلك، والرياضيات، والكيمياء، والطبيعة، والتاريخ، والجغرافيا، والمنطق، واللغات الأجنبية، فضلا عن علوم اللغة العربية والدين، فما كان من شيوخ الأزهر أو بعضهم إلا الرفض القاطع والتحريم، كما فعل الشيخ الشربينى شيخ الأزهر الذى أعلن أن هذا الإصلاح الذى دعا له الإمام محمد عبده يبغى «تحويل الأزهر إلى مدرسة للفلسفة والأدب تحارب الدين وتطفئ نوره!».
وها نحن نفاجأ اليوم بدعوات جديدة لإلغاء الفلسفة فى مدارس الدولة، فضلا عن الدعوات الأخرى التى تحرم الغناء، والنحت والتصوير، والتمثيل، وتنذر بمستقبل يثير الخوف ويدعو لليقظة، مستقبل نخاف منه على كل ما حققناه، لأن التعليم أساس لمعرفة الحاضر والماضى والمستقبل لمعرفة النفس، ومعرفة الغير، ومعرفة الطبيعة، ومعرفة الكون للخروج مما نعانى منه واللحاق بالآخرين، لا أتحدث عن الآخرين الذين سبقوا الجميع كالأوروبيين الغربيين، وإنما أتحدث عن الآخرين الآسيويين اليابانيين، والصينيين، والهنود، والكوريين، والماليزيين الذين لحقوا الغرب بالتعليم، وكنا قريبين منهم، بل كنا متقدمين عن بعضهم والسؤال الآن، لماذا الكتاتيب الآن؟.
> > >
والجواب الذى تردد فى الصحف هو تحفيظ القرآن، وتعليم اللغة العربية، وتربية الأطفال تريبة أخلاقية قويمة.
لكننا نعرف أن مدارس الدولة ومؤسساتها الإعلامية مجندة كلها لخدمة هذه الأهداف، اللغة القومية مقررة بالطبع فى كل المدارس ومستخدمة فى تدريس المواد الأخرى، فضلا عن الكليات والأقسام المختصة فى الجامعات، والدين مادة فى البرامج الدراسية، والنصوص الدينية موجودة بكثرة فى مقررات اللغة العربية، والأخلاق بالطبع عقيدة وسلوكا، وللقرآن الكريم قناة خاصة فى الإذاعة، وله مكانه فى القنوات الأخرى، والمساجد منتشرة بكثافة، وتزداد انتشارا كل يوم فى الوقت الذى نعانى فيه من ضيق الفصول الدراسية، ومن قلة المستشفيات، وقد أنبأنا الأستاذ حمدى رزق فى مقالة أخيرة له أن ما أنفق من أموال الدولة على بناء المساجد وتجديدها فى السنوات العشر الأخيرة بلغ أكثر من اثنين وعشرين مليارا من الجنيهات، فهل ترى وزارة الأوقاف أن هذا كله لا يكفى؟!.
أعترف بأن مستوى التعليم فى مدارسنا هابط ضعيف، وأن التلميذ يتم دراسته الآن ويتخرج وهو لا يعرف لغته القومية، كما يجب.
بل أعتقد أن هذا التقصير يبدأ من المدرسين أعترف بهذا، ولكنى لا أفهم أن يكون العلاج بالكتاتيب التى لا أعتقد أنها ستكون قادرة حتى على حماية نفسها من الأمراض التى تنخر الآن فى المدارس، والأسباب معروفة، الفصل الدراسى الذى لا يصح أن يزيد عدد التلاميذ فيه على ثلاثين تلميذا أصبح محشرا لأضعاف هذا العدد، والمعلمون الذين ينبغى أن نتأكد من كفاءتهم قبل تعيينهم يعينون بما يحملون من شهادات، لا بما يتمتعون به من كفاءة، والنظار والمفتشون الذين يراقبون سير العمل فى المدارس لا يؤدون واجبهم، كما ينبغى،
والنتيجة هى ما نراه ونسمعه فى الإذاعات ونقرأه فى الصحف والكتب التى تصدر فى هذه الأيام من لغة رديئة وأخطاء فاحشة، ولست أظن أن حال الفصحى فى مكاتب الحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى أفضل من هذه الحالة التى لا أظن أن فينا من يدعى أن الكتاتيب تستطيع أن تحمينا أو تحمى نفسها منها، والسبب واضح، وهو أن ما نشكو منه أصبح وباء يطاردنا فى كل مكان، وفى مواجهة ما نحن فيه نحتاج لخطة قومية نصلح بها التعليم فى بلادنا من ألفه فى الحضانة حتى يائه فى الجامعة..المدارس، والمناهج، والمعلمون، والنظار، والمفتشون، أما الكتاتيب،
فالكتاتيب كانت تملأ مصر، وكانت هى وحدها التى تتولى تعليم المصريين وتربيتهم هى والأزهر خلال القرون التى سبقت نهضتنا الحديثة، فهل كانت لغتنا فى تلك القرون أفضل من لغتنا الآن؟، لا، بل كانت أسوأ بكثير حتى فى بعض ما كان يكتبه علماء الأزهر.
وإنما أصبحنا نعرف الفصحى، وننظم بها الشعر، ونكتب المقالة، والقصة، والرواية، والمسرحية، وأصبحت لنا إمارة الشعر، وعمادة النثر، وجائزة نوبل، بالمدارس والمعاهد التى فتحناها وبالجامعة التى أنشأناها.
تلك هى الطريق التى يجب أن نواصل السير فيها، لا أن نعود إلى الوراء!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية