تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
فى اليوم العالمى للفصحى
غدا، الثامن عشر من ديسمبر، تحتفل منظمة اليونسكو باليوم العالمى للغة العربية، ويحتفل معها العالم كله بهذا اليوم، إلا نحن أبناء هذه اللغة، لأننا فى هذا الاحتفال سنشعر بالتقصير الشديد فى هذا الاحتفال، على عكس الذين قدر لهم أن يتعلموا لغتنا من الأجانب، أو يقرأوا فى لغاتهم ما كتب عنها أو ترجم من آثارها. وما الذى نستطيع نحن أن نقوله فى هذا اليوم، والعام يمر يوما بعد يوم، ونحن أبناء هذه اللغة لا نبالى بها، ولا نعطيها حقها، ولا نكشف عما فيها من جمال لا ينفد، وطاقات تتجدد وتتجدد طالما كانت هناك أفئدة تنبض بكلماتها، وعقول تخاطبها وتهتدى بهديها وتستنير بنورها. بل نحن لم نعد نكتفى بالتجاهل واللامبالاة، وإنما تجاوزنا هذا الحد فأصبحت الأخطاء المخجلة شائعة، ولم تعد الركاكة تجد من يلتفت لها أو يعترض عليها. وفى الماضى كان الخطأ يثير الفزع، وكانت الركاكة تبعث على الاشمئزاز لأن العلاقة باللغة كانت انتماء لا ينفصل عن الانتماء للوطن، وكان الحرص على سلامة اللغة وفصاحتها وجمالها تعبيرا عن شعور بالغيرة، كما لو أن اللغة كانت نسبا أو عرضا لا يطاق المساس به.
وأنا الآن اقرأ الصحيفة فأجد الخطأ بعد الخطأ فى المقالة وفى الخبر، وربما وجدته فى العنوان العريض. وأقرأ الكتاب، حتى الكتب التى تصدر عن المؤسسات الثقافية الكبرى التى يفترض أنها تدار بمثقفين مسئولين وتعمل بمختصين أكفاء فأجد الأخطاء تتري، لا فى جمل صعبة، ولا فى سياق يحتمل السهو وعدم الانتباه، بل فى جمل بسيطة ساذجة لا تختلف عن الجمل التى يتعلم بها الأطفال أن الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب. ويبدو أن الفاعل فى كتب هذه الأيام لم يعد قادرا على الفعل، والمفعول به لم يعد يمتثل للفاعل! ثم إن الأخطاء تقع وتتوالى دون أن تجد من يصحح أو يعترض، كأنما صارت الأخطاء نحوا جديدا يسمح لكل من يمسك قلما أن يقع فيما يجده فى طريقه من أخطاء.
وهناك من يظن أن مشكلتنا فى اللغة هى مشكلتنا مع النحو الذى نستطيع أن نتحرر منه إذا استخدمنا العامية، وهؤلاء واهمون. فالعامية أيضا لها نحوها الذى نتعلمه فى البيت أو الشارع، ونرثه جيلا عن جيل، فهو تركيب وسياق تؤدى فيه الكلمات المعنى المقصود دون أن تحتاج لحركة أو علامة صوتية تتميز بها كما فى الفصحي. لكننا ننظر الآن فى العامية التى نستعملها فنجد أن ما أصاب الفصحى من خلط واضطراب وعجز عن الإفصاح أصاب العامية التى فقدت ملاحتها القاهرية وخفة ظلها وقدرتها على الإشارة من بعيد، وصارت مجرد مفردات تتبعثر وتتعثر على الألسنة، ولا يصل منها للسامع إلا اضطراب المتكلم وحيرته وعجزه عن استحضار الكلمة وبناء الجملة والتعبير المباشر عما يريد.
وفى الماضى كنا نشفق على الفصحى ونخاف عليها من العامية، التى أصبحت سيدة الموقف فى السينما والمسرح، واستطاعت أيضا أن تشارك الفصحى فى الرواية والشعر. وها نحن اليوم نفقد العامية مع الفصحى التى لا تستطيع العامية أن توجد بدونها، فليست العامية إلا صورة محلية من صور الفصحي، تبتعد أو تقترب لكنها تظل موصولة بها،فإذا تراجعت الفصحى لأننا لم نعد نتعلم، ولم نعد نستخدم عقولنا بطلاقة وحرية، تراجعت العامية التى تحتاج هى أيضا للعقل والحرية لأنها هى أيضا تفكير وتعبير وبدونها لا نوجد. فنحن نوجد باللغة. والإنسان كما نعرف جميعا حيوان ناطق. ومن هنا كلمة سقراط الشهيرة لأحدهم: تكلم حتى أراك!
ومشكلتنا مع اللغة إذن ليست مع النحو، وإنما هى مع ما نريد أن نقوله، سواء بالفصحى أو بالعامية. مشكلتنا مع الفكرة التى نريد أن نعبر عنها ولا نستطيع، لأنها ليست واضحة، وليست صريحة، وليست محددة. وهى آفة أصبحت على ما يبدو شائعة متمثلة فى اللغة الشائعة التى نتكلمها ونكتبها ونتعلمها فى المدارس والجامعات، فإذا أردنا أن نعود إلى اللغة الصحيحة فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأن نعود إلى التفكير الصحيح، لأن اللغة لا تصح فى مناخ يكره العقل، ويطارد التفكير الحر. وما علينا إلا أن ننظر فى تاريخنا القريب، فى نهضتنا الحديثة التى قفزنا فيها قفزة عبقرية خرجنا فيها من الظلمات، واستعدنا بها ما فقدناه فى الفكر واللغة والسياسة والاجتماع والفن. كأن كل هذا الذى حققناه كان يتحقق فى السر بعيدا عن عيون الطغاة والهمج الذين كانوا يحكموننا فى القرون الماضية، حتى إذا أتيح لنا أن نتخلص منهم تدفقت بين أيدينا المعجزات. حملنا السلاح بعد أن حرمنا من حمله ألفى عام وامتلكنا به البر والبحر، والشمال والجنوب. وبنينا المصانع، وحفرنا الترع، وجددنا الفكر الديني، وفصلنا الدين عن الدولة، وأنشأنا المعاهد العليا، وترجمنا علوم الأوروبيين، وأحيينا الشعر فأحيينا اللغة وأدخلنا فيها فنونا لم تعرفها من قبل. قفزة رائعة قفزتها لغتنا الفصحى من صفحات الجبرتى التى كان يخلط فيها بين العامية والفصحى وصفحات الشرقاوى شيخ الأزهر وفكره الخرافى وأخطائه النحوية إلى لغة البارودي، وإسماعيل صبري، وشوقي، وحافظ، ومحمد عبده، والمنفلوطي، وهيكل، ولطفى السيد، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ. أليست هذه معجزة؟ بلي، هى معجزة. ونحن قادرون على أن نكررها الآن إذا وفرنا لها شروطها التى نستطيع أن نلخصها فى شرطين اثنين: العقل، والحرية.
وفى أوائل القرن الماضى حيث أصبحت مصر دولة مستقلة وصدر دستور 1923 وهو أفضل دستور وصلنا إليه حتى الآن، فى تلك السنوات التى استمع فيها المصريون لخطب زعيم الأمة، سعد زغلول، وقصائد أمير الشعراء شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وقرأوا مؤلفات طه حسين وتوفيق الحكيم، كان حافظ يتحدث بلسان الفصحى فيشكو مر الشكوى ويتهم أهل زمنه بالعقوق لأن بعضهم يتحذلق فيتهم الفصحى بالعجز، ولأنه نظر فى صحيفة فرأى خطأ لا يصح السكوت عليه فقال فى قصيدته «اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها».
رجعت لنفسى فاتهمت حصاتي/ وناديت قومى فاحتسبت حياتي/ رمونى بعقم فى الشباب وليتني/ عقمت فلم أجزع لقول عداتي/ وسعت كتاب الله لفظا وغاية/ وما ضقت عن آى به وعظات/ فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة/ وتنسيق آلات لمخترعات؟/ فلا تكلونى للزمان فإنني/ أخاف عليكم أن تحين وفاتي! فإذا كان حافظ قد رأى فى لغة زمانه ما يثير خوفه عليها، فما الذى نراه نحن فيها الآن؟!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية