تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حول قرار السيد الوزير
حين قرأت ما نشرته الصحف عن القرار الذي اتخذه السيد وزير التربية والتعليم بجعل الدين مادة إجبارية في كل مراحل التعليم ينجح فيها التلميذ أو يرسب، وألا تقل الدرجة اللازمة للنجاح عن سبعين في المائة تضاف للمجموع الكلي ـ حين قرأت عن هذا القرار فكرت فيما صارت إليه علاقتنا بالدين في هذه الأيام، وتذكرت كيف كانت علاقتنا به نحن الجيل الذي تلقي دراسته الإبتدائية والمتوسطة في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وقارنت بين ما كنا فيه وما صرنا إليه.
في اربعينيات القرن الماضي لم يكن الدين مادة مقررة في مدارسنا، لكنه في تلك السنوات كان حياة غنية تهزنا من الأعماق، وتملأ بيوتنا وشوارعنا وأيامنا صدقا وخصبا وشعورا بالأمان، واتصالا روحيا بالعالم كله، أرضه وسمائه، وصبحه ومسائه، وشمسه وقمره، فنحن نؤدي الشعائر، ونحتفل بالأعياد الدينية، ونستمع للمقرئين العظام الذين عبروا بأصواتهم الرائعة عما في القرآن من روعة وحق وجمال، وقد وجدت نفسي، وأنا في نحو الخامسة عشرة من عمري مدعوا في المسجد المجاور لدارنا لأؤمهم في الصلاة عدة مرات.
هذه الحياة التي كانت عامرة بالدين كانت عامرة أيضا بالوطن... كنا نحتفل بأعياده، ونتابع ما ننجزه في الأدب والفن والعلم والسياسة، وننخرط في النشاط الوطني بكل صوره التي كانت متاحة لنا تعبيرا عن عدائنا للمحتلين الإنجليز ودفاعنا عن الاستقلال والديمقراطية. وكما كانت حياتنا الوطنية عامرة بالأعياد الإسلامية كانت عامرة كذلك بالأعياد المسيحية، وكما كنا نسمع أصوات المؤذنين في أوقات الصلاة، كنا نسمع أيضا أجراس الكنيسة. وكما كان الدين حاضرا في حياتنا بهذه القوة وبهذا الغني كانت الثقافة أيضا حاضرة بكل فنونها، الشعر، والرواية، والنقد، والمسرح، والسينما، والأغنية... وكانت حاضرة أولا بالتعليم الذي لم يكن مجرد مواد متفرقة غير مترابطة، أو معلومات يحفظها التلميذ ويرددها، وإنما كان التعليم المصري في تلك المرحلة تربية بالمعني الصحيح أو ثقافة شاملة يحصلها التلميذ بكل حواسه وطاقاته، ويعبر عنها بنشاطه العقلي والعاطفي، وبسلوكه مع نفسه ومع غيره، وهذا هو الفرق الجوهري بين التعليم المصري، كما كان قبل خمسين أو ستين عاما والتعليم الآن. المدرسة المصرية كما عرفناها في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته التي صار فيها طه حسين وزيرا للمعارف كانت أشبه، بمصنع يستقبل التلاميذ، وهم مادة خام يعالجها عضوا عضوا، وينميها طاقة بعد طاقة حتي يصبح الواحد من هذه الكائنات بشرا سويا يقرأ ويفهم، ويفكر ويتذوق، ويجري ويلعب، ويناقش ويقبل ويرفض. نعم المدرسة المصرية لم تكن مجرد فصول دراسة يحشر فيها التلاميذ، وإنما كانت إلي جانب الفصل مكتبة، ومطعما، ومسرحا، ومرسما، وقاعة للموسيقي يتعلم فيها التلميذ العزف، ويقرأ النوتة الموسيقية علي أيدي أساتذة مختصين، ويعطي الآلة التي يتعلم العزف عليها ليواصل تمريناته في بيته. وكانت المدرسة أيضا ملاعب لكرة القدم، وكرة السلة، وحتي الملاكمة، وهكذا كانت مصنعا يدخله التلميذ، وهو حيوان غير ناطق، ويخرج منه وقد صح جسمه وعقله وقلبه وضميره، وعرف نفسه، وعرف وطنه وشعبه، واكتشف مواهبه، وأصبح مستعدا ليكون مجدي يعقوب أو أحمد زويل.
والآن؟ الآن يظل للدين حضوره بالطبع في مصر، فالدين بالنسبة لكل مصري مسلم أو مسيحي ثروة لا تنفد، وملجأ لكل لاجئ، وغوت لكل مستغيث، وهو بهذا الحضور القوي، وهذا التأثير الحميم معرض لمن يعبثون به ويستغلونه في تحقيق مآربهم، والوصول لما ليس لهم حق فيه، وخاصة حين يختل التوازن الذي أشرت إليه فيما سبق بفعل فاعل، وتتراجع الثقافة التي قام عليها وجودنا في هذا العصر الحديث، ثقافة العقل والعلم والمواطنة والديمقراطية التي كانت حصنا حصينا للوطن، وكانت كذلك حصنا حصينا للدين، كما هو في حقيقته، وكما يجب أن نعرفه بعيدا عن السياسة وتقلباتها، ضمانا لأن يظل علاقة نقية صادقة بين الإنسان وربه ينبض بها قلبه، ويحرسها ضميره، هذه الثقافة تراجعت فخلا الجو لمن اغتصبوا السلطة، وضيعوا الثقافة كما ضيعوا الديمقراطية. والتعليم أول ما ضاع، لأن التعليم إذا لم يجد مناخا يصح فيه العقل، وينشط الرأي الحر، وتتسع فيه الصدور، صدور الحاكمين والمحكومين، للنقد والمناقشة فترت همته، وأصبح مجرد معلومات يابسة معطلة تحفظ قبل الامتحان، وتنسي بعده.
وأنا أقرأ الآن الصحف، وأتصفح الكتب فأجد أخطاء مخزية، مخزية لأنها ليست مجرد أخطاء نتعرض لها جميعا، فليس في الناس واحد معصوما من الخطأ، وإنما هي جهل متعمد واستهانة باللغة وأصحابها. وهي لا تقع في نصوص صعبة، ولا في سياق يمكن أن يدخله السهو، وإنما تقع في كلام هجين، فتستفز القارئ الذي يعرف منها إلي أي حد هبط مستوي تعليم اللغة العربية في مدارسنا، والذي أجده في اللغة المكتوبة أجد أسوأ منه في اللغة المنطوقة التي أصبحت غير منطوقة في هذه الأيام، ثم لا أجد من ينتبه، أو يصحح، أو يعترض، فإذا كانت اللغة وهي وسيلتنا لمعرفة ما لابد أن نعرفه قد هبطت إلي هذا الحد المخيف فقد هبط كل ما نعرفه بها، وهو ما تقدمه لنا المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، فكيف تصدت وزارة التربية والتعليم لهذا الخطر الماحق؟.
تصدرت له بالقرار الذي أصدرته حول تدريس الدين الذي نعرف جميعا أنه حاضر في حياتنا بقوة، فهل تتكرم الوزارة بقرار مماثل تنقذ به اللغة التي أصبحت في أشد الحاجة لبرنامج وطني ينقذها تشارك فيه كل المؤسسات المشتغلة بالتعليم والثقافة والإعلام.
وسؤال آخر عما تنوي الوزارة أن تقدمه لأبنائنا في درس الدين : هل سيكون لتجديد الخطاب الديني في هذا الدرس مكان؟!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية