تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أكتوبر شهر الانتصارات!

أكتب هذه المقالة عن المتحف المصري الكبير، وهو بالنسبة لي ولكل من احتفى به وفكر في رسالته التي يحملها، وفي الحضارة العظيمة التي يمثلها، وفي التطورات والظروف التي مرت بنا وتمر بنا الآن كل هذا يجعل الحديث عن المتحف حديثا ذا شجون.

 

وقد تابعنا جميعا ردود الفعل المختلفة التي أثارها افتتاح المتحف وحضور الدولة كلها وفي المقدمة رئيس الجمهورية، وفرح المصريين وكأنهم عادوا أطفالا سعداء في يوم عيد، واعتزازهم بتاريخهم القديم وحضارتهم الشامخة، ومشاركة العالم في افتتاح المتحف الذي اختارت له الأقدار يوما في شهر كان سلسلة من الانتصارات التي ظلت تتوالي انتصارا بعد انتصار. في الأيام الأولي من الشهر احتفلنا بالذكري الثانية والخمسين لانتصار أكتوبر المجيد، وفزنا بعد ذلك بإدارة أكبر منظمة ثقافية في العالم وهي منظمة اليونسكو، وبعدها بالمقعد الذي فزنا به في مجلس حقوق الإنسان، ثم لم تمض إلا أيام قلائل حتي احتفلنا واحتفل العالم معنا بافتتاح المتحف الذي استرجعنا به ماضينا من عالم النسيان، وقدمنا فيه حضارتنا كما لم تقدم من قبل. لأن هذه التحف، وهذه الآثار التي كانت قطعا متناثرة ومفردات متباعدة اجتمعت وانتظمت فعادت الروح للحضارة المصرية التي أصبحت ناطقة معبرة عن نفسها وعن الشخصية المصرية روحا وجسدا، أرضا وسماء. فالتحية واجبة لكل من أسهم بقول أو فعل في بناء هذا الصرح العظيم، وفي المقدمة الفنان فاروق حسني الذي أصبحت له في هذا الإنجاز بصمة باقية. ولن يكون غريبا هنا أن أتوجه بالشكر الجزيل للعالم الجليل شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب علي كلمته المستنيرة المعبرة التي هنأ فيها السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى والشعب المصري بمناسبة افتتاح المتحف. وهذا ما سوف أعود للحديث فيه بعد أن أشيد بإنجاز للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ذكرتنا فيه بما أداه آباؤنا للمسيحية في عصرها الأول، إذ احتضنت المؤتمر السادس لمجلس الكنائس العالمي واستضافته في وادي النطرون. وقد استقبل السيد رئيس الجمهورية الحاضرين من ممثلي كنائس العالم وفي مقدمتهم قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وعبر في حديثه معهم عن التزام الدولة المصرية بصون حرية العبادة والعقيدة، وترسيخ قيم التفاهم والتسامح. وأعود لأتحدث عن تهنئة الإمام الأكبر للرئيس بافتتاح المتحف الكبير، وفيها يؤكد فضيلته «إن هذا الصرح الحضاري يعكس موقع مصر الفريد في الحضارة الإنسانية علي مر العصور.. مقدرا جهود الدولة في الحفاظ علي التراث، وتعزيز قيمة الانتماء للوطن، وترسيخ الجمال والذوق الرفيع في نفوس الأجيال الجديدة». ونحن نري أن ما جاء في تهنئة الدكتور الطيب لم يكن مجرد تهنئة تستدعيها المناسبة، وإنما كان ردا مفحما علي موقف الجهلاء الحمقي الذين أصابهم الجنون حين رأوا المصريين يستقبلون افتتاح المتحف بهذا الفرح العارم، وهذا الفخر النبيل، وهذا الشعور العظيم بالانتساب. والانتماء الذي أوحي لهم بارتداء ثياب أجدادهم، وجعلهم يقفون بعشرات الألوف أمام بوابات المتحف ينتظرون دورهم في الدخول. وهنا أدرك الجهلاء الحمقي المتاجرون بالدين أنهم في مصر غرباء، وأن السنوات السبعين التي ظلوا فيها يهجنون المصريين ويجهِّلونهم، ويشككونهم في نسبهم، وينتزعونهم من أرضهم وسمائهم، ومن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ـ كل هذا ذهب أدراج الرياح. تكفيرهم لمن ينتمي للوطن، وفتاواهم التي قالوا فيها إن المجالس النيابية حرام، وحرية الفكر كفر، وتحية العلم الوطني صورة من صور الشرك بالله، والدين هو الوطن كما كان الشعراوي يقول، فعلينا أن نتبرأ من أي انتماء آخر. ومع هذا العداء الصارخ للوطن، والدستور، والقانون، وحقوق الإنسان ظلت هذه الفتاوي الشريرة تنشر وتذاع بحرية لا حدود لها، وظل أصحابها يطبلون بها ويزمرون، ومنهم من دعا لتحطيم أبو الهول، وتغطية تمثال عروس البحر بالإسكندرية، ومنهم من طالب بدفن المومياوات كما فعل الشيخ عبدالحليم محمود؟! هذا التطرف الممقوت، وهذه الحرب المعلنة علي مصر الحبيبة وتاريخها وحضارتها كانت وراء الجرائم الرهيبة التي ارتكبت طوال الأعوام الخمسين الماضية. سلسلة الاغتيالات التي راح ضحيتها الرئيس الأسبق أنور السادات، والمفكر المستنير فرج فودة، والروائي العبقري نجيب محفوظ، وثمانية وخمسون سائحا أجنبيا سقطوا في هجمة بربرية في معبد الدير البحري ثمنا لأنهم علي اختلاف جنسياتهم أحبوا مصر، وعرفوا قدرها، وتركوا بلادهم وأعمالهم وأسرهم وجاءوا لزيارتها. وإذن فقد أصبحت البربرية ديانة، وخيانة الوطن عقيدة كما ظن أصحاب هذه الفتاوي. حتي كان يوم افتتاح المتحف الذي انقشعت فيه الظلمات كأن لم تكن، وأسفر الصبح، وأشرقت وجوه المصريين، وتحول افتتاح المتحف إلي عودة للوعي، ويقظة للروح. وفي هذا الضوء نفهم تهنئة الإمام التي لم تكن كما قلت مجرد تهنئة في مناسبة رسمية، وإنما كانت تنزيها للإسلام والمسلمين وتبرئة لهم من أن يظن أحد بهم ظن السوء ويحاسبهم علي ما يقوله السفهاء المحترفون عنهم. وقد رأينا أن الدكتور الطيب لم يكتف بعبارات التهنئة المعروفة، وإنما عبر عن موقف الإسلام من الوطن والانتماء الوطني، ومن التراث المصري، ومن الحضارة الإنسانية، ومن الجمال الذي لا يعرفه إلا أصحاب الذوق الرفيع. لك الشكر يا دكتور! لأننا في أشد الحاجة لإنقاذ الإسلام من ثقافة القبح التي صارت بضاعة رائجة في مصر تقدم للأميين البسطاء علي أنها الإسلام، والإسلام برىء كل البراءة من هذه الثقافة، لأن الإسلام عقل وتنزيه، وطهارة روح وجسد. والله جميل يحب الجمال!

والدين طريق إلي الجمال، لأنه يفتح أمامنا الكون كله فنري أجمل ما فيه ونتأمله ونهتدي به للحق. كما أن الجمال طريق إلي الدين، لأنه يخاطب أفئدتنا، ويصلنا بالعالم وخالقه. حين نستمع لقداس باخ أوموزار، أو بتهوفن نستغرق فيه كما نستغرق في الصلاة. ونحن نعرف أن الرسول كان يطلب من بلال أن يؤذن بصوته الندي للصلاة. وهذا ما تعلمه المصريون من النبي، فأصبحوا ينشدون ويغردون وهم يقرأون القرآن الذي صارت قراءتهم له فنا جميلا أصيلا يتذوقه البشر في أنحاء العالم و يطربون له. وكيف لا يطرب من يستمع لمحمد رفعت أو لمصطفي إسماعيل؟ والجمال الذي نجده في قراءة المصريين للقرآن نجده أولا في لغة القرآن التي جمعت بين الحق والجمال والجلال.

والتحية من جديد لكل من أسهم بقول أو فعل في بناء هذا الصرح العظيم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية