تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
غرفة للسائح ونافذة للحياة
أثناء زيارتي للندن، قررت أن أستغل الفرصة وأبقى في إنجلترا أياماً قليلة. لم يكن في الأمر شيء من التخطيط، فقط رغبة في أن أبطئ الزمن قليلاً، وأتأمل الناس من نافذة لا تعرفني. المدن الأجنبية تريك نفسك في مراياها: غريباً، متسائلاً، متحرراً من العادات التي تحاصرك في بيتك. ذهبت إلى قريب لي في مدينة تبعد عن لندن نحو مئتي وخمسين كيلومتراً. دفعت للتذكرة ذهاباً وإياباً مئة وخمسة عشر جنيهاً إسترلينياً.
ويومها قال لي صديق عزيز: "لو أنك أخبرتني من قبل، لوجدت لك غرفة فندقية في لندن بأقل من ثلاثين جنيهاً في اليوم." ضحكت وقلت له: "ربما لم أكن أبحث عن الغرفة، بل عن التجربة." كنت سأبقى في لندن، أتمشى على الرصيف الذي مر عليه ديكنز، وأجلس في المقهى الذي كتب فيه جورج برنارد شو، وأستمع إلى اللغة وهي تمشي بين الناس كالموسيقى.
هناك مدن تفتح لك ذراعيها، ومدن تفتح لك عقلها، ومدن -مثل لندن- تفتح لك التاريخ.
وحين عدت إلى نفسي، تمنيت لو أننا نقلنا هذه الفكرة إلى مصر. لماذا لا تكون عندنا غرف صغيرة، لا تبيع الرفاهية بل الدفء الحقيقي، غرفة فيها نافذة، وكرسي، وبعض الهدوء... وسائح واحد يرى مصر كما لم يرها أحد. في تلك الأيام، كانت تطبيقات الحجز الإلكتروني نادرة. وكانت في مصر شقق للإيجار، بلا قانون ولا ترخيص، فقط بالثقة والجدعنة.
لكن الآن تغير الزمن. فمصر بدأت تدرك أن السائح لا يسكن في الفنادق فحسب، بل في القصص التي يعيشها. لا يطلب نجوماً على جدار الفندق، بل نجمة واحدة تضيء له قلبه. لهذا شهدنا في عام ألفين وخمسة وعشرين زيادة ملحوظة في عدد السائحين -خمسة عشر مليوناً خلال الأشهر التسعة الأولى- بنسبة نمو بلغت واحداً وعشرين في المئة.
ولم يكن ذلك مصادفة. فوزارة السياحة والآثار أطلقت نمطاً جديداً من الإقامة اسمه «شقق الإجازات» (Holiday Home)، وهي فكرة بسيطة وعميقة في آن: أن تمنح الإنسان بيتاً مؤقتاً يشعر فيه أنه في وطن. القوانين الجديدة - رقم ثمانية لسنة ألفين واثنين وعشرين، ورقم سبعة وعشرين لسنة ألفين وثلاثة وعشرين، وما تبعها في مارس ألفين وخمسة وعشرين - ليست مجرد مواد قانونية. إنها محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين السائح والمدينة. أن تصبح الإقامة، ليست عقداً من ورق، بل عهداً من ضوء.
وقد أوضح محمد عامر، رئيس الإدارة المركزية للمنشآت الفندقية، أن الترخيص الجديد يشترط أن تكون البناية كلها مخصصة لهذا الغرض، في منطقة لائقة، راقية، تحترم زائرها كما تحترم نفسها. وهذا يعني أن مصر لم تعد تبيع غرفاً، بل تبيع ثقة.
لكن الفكرة يمكن أن تذهب أبعد من ذلك. لدينا صحراء تمتد حول الأهرامات، وسواحل تمتد كالأحلام من الإسكندرية إلى حلايب. لماذا لا نحولها إلى قرى صغيرة من الأكواخ الخشبية؟ بيوت خفيفة، جميلة، يسكنها الضوء، ويغادرها الغروب مبتسماً.
إن الأجنبي حين يأتي إلى مصر لا يبحث فقط عن الشمس، بل عن المعنى، عن الدفء الإنساني الذي لا تبيعه شركة سياحة.
وقد سبقتنا دول الخليج إلى فكرة قريبة، اسمها الشقق الفندقية: مبانٍ كاملة تدار كما تدار الفنادق، نظام ونظافة وابتسامة. تناسب العائلات، وتحقق للدولة والمستثمر ربحاً كريماً. وفي مكة المكرمة، صارت هذه البنايات جزءاً من الرحلة الروحية نفسها، لا من التجارة فقط.
وفي القاهرة الخديوية، يمكن أن تنجح الفكرة ذاتها. فوسط العمارات القديمة التي سكنت فيها الصحافة والفن والذاكرة، يمكن أن تولد حياة جديدة. الغرفة الفندقية هنا ليست مجرد إقامة، بل عودة إلى الإنسان.
إنها فلسفة جديدة في السياحة.
أن نبدأ من التفاصيل الصغيرة، لا من الأبراج العالية. أن ندرك أن كل غرفة تؤجر لسائح، هي نافذة تفتح لنا على العالم، ومرآة نرى فيها أنفسنا كما نحن، بلا تزيين ولا تصنع. فهل نصل إلى سبعين مليون سائح، كما فرنسا وإسبانيا؟ ربما. حين نعرف أن الطريق إلى ذلك لا يبدأ من الفنادق، بل من القلوب.
حين ندرك أن السائح لا يشتري الغرفة، بل يشتري اللحظة التي يشعر فيها أنه في بيت لا يعرفه، لكنه يشبهه.
في النهاية، ليست الغرفة التي نؤجرها هي ما يبقى. بل الانطباع الذي نتركه خلف الباب، حين يغلق السائح حقيبته، وينظر إلينا نظرة ود، ويقول في سره: "لقد وجدت هنا بيتاً صغيراً، لكنه فتح لي نافذة على الحياة."
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية