تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > أحمد باشا > العقيدة الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط

العقيدة الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط

تبدو الورقة الخاصة بالشرق الأوسط فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة أقرب إلى إعادة ترسيم للعقيدة الأمريكية نفسها، لا مجرد تحديث تقنى لمنطقة تتغير موازينها. فالنص الذي صاغته مؤسسات صنع القرار فى واشنطن - لا البيت الأبيض وحده - ينتمى إلى مدرسة «إدارة الانكفاء المدروس»، تلك التي ترى أن الشرق الأوسط لم يعد مسرحًا لحروب كبرى، بل مساحة يمكن احتواؤها بقدر من الردع، ومنع المخاطر، وإبقاء خطوط الملاحة والطاقة والمؤسسات الصديقة فى حالة تشغيل دائم.

ما تكشفه هذه الورقة، أكثر من أى شيء آخر، هو انتقال الولايات المتحدة من مرحلة «التورط الاستراتيجى» إلى مرحلة «التحكم عن بُعد»، من خلال وكلاء إقليميين، وشبكات تحالفات مرنة، وأدوات قوة ذكية، بديلة عن الجيوش التي استُنزفت فى العراق وأفغانستان.

قراءة السطور تكفى لفهم الرسالة، لكن قراءة ما بين السطور تكشف الاتجاه.

فالوثيقة لا تعلن خفض أهمية الشرق الأوسط فقط لأنها ترى أن الطاقة لم تعد محركًا للسياسة الأمريكية، بل لأنها تعترف ضمنيًا أن الزمن الذي كانت فيه المنطقة مركزًا للأمن الدولى قد انتهى.

وللمرة الأولى تقدم واشنطن المنطقة كفضاء «قابل للإدارة» بدلًا من كونها مصدر تهديد دائم. وهو تحول بنيوى يعكس تغيرًا فى أولويات المؤسسة الأمريكية، التي باتت تنظر إلى آسيا والمحيطين الهندى والهادئ، وإلى منافسة الصين، بوصفها الاختبار الحقيقى للقرن الجديد.

أما الشرق الأوسط، فبات يُعامل كملف يجب ألا يشتعل أكثر مما ينبغى، لكنه ليس بحاجة إلى حلول كبرى أو تدخلات ثقيلة.

 ويهم هنا مقارنة هذا النهج مع استراتيجيات سابقة.

فاستراتيجية بوش الابن (2002) بنت رؤيتها على «الهندسة الجيوسياسية بالقوة»، ومحاولة إعادة تشكيل المنطقة بالقوة الناعمة والخشنة معًا، عبر نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب من منابعه.

أما استراتيجية أوباما (2010-2015) فذهبت إلى تقليل الانكشاف، مع محاولة تحقيق توازن جديد بين إيران والخليج، والتوصل إلى اتفاق نووى يعيد ضبط الصراع.

ثم جاءت استراتيجية ترامب الأولى (2017) لتعود إلى الواقعية الصلبة. أمن إسرائيل، ومحاصرة إيران، وتوسيع التحالفات الخليجية، دون أى التزامات إصلاحية.

غير أن الوثيقة الحالية تختلف عن هذه جميعًا فى أمر جوهرى،إنها لا تحاول إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بل إعادة تعريفه باعتباره ساحة مصالح ثانوية، شرط ألا يتجاوز خطوط الأمن الصلبة التي تحددها واشنطن. فقد انتهى زمن الأحلام التغييرية، وبدأ زمن الاستقرار القابل للإدارة.

داخل النص ترتسم معادلة دقيقة.

تحييد إيران دون حرب، تثبيت أمن الممرات البحرية، ضمان تفوق إسرائيل النوعى، منع المنطقة من أن تصبح مصدرًا للإرهاب، ثم توسيع شراكات التطبيع لتشكيل بيئة اقتصادية- أمنية يمكن إدارتها من الخارج. هذا هو الهيكل العميق للاستراتيجية، الذي يختبئ خلف لغة هادئة.

ولم تعد حقوق الإنسان أو الديمقراطية جزءًا من المصلحة الأمريكية، بل أصبحت بندًا تجميليًا يرد مرة واحدة، ليُعاد دفنه خلف أولوية التحالفات المستقرة. وبذلك تعلن واشنطن- لأول مرة بشكل مكتوب- نهاية مرحلة «سياسة القيم»، وبداية واقعية جيوسياسية صريحة تُبنى على ما هو موجود، لا ما يجب أن يكون.

لكن أخطر ما تكشفه الوثيقة هو تصور واشنطن لمستقبل المنطقة.

فالشرق الأوسط، كما تراه مؤسسات الأمن القومى الأمريكية، يتجه إلى أن يكون عقدة استثمارية وصناعية فى الطاقة النووية النظيفة، والذكاء الاصطناعى، والتقنيات الدفاعية، وسلاسل التوريد. وهو مستقبل قد يبدو واعدًا، لكنه مرهون بشروط ليست جميعها فى يد أبناء المنطقة. فواشنطن تريد من الشرق الأوسط أن يكون فى هدوء طويل المدى، بلا قفزات سياسية كبرى، وبلا إعادة رسم للحدود أو الأنظمة، وبلا عواصف إيديولوجية كتلك التي هزّت المنطقة منذ 2011. إنها رؤية تسعى إلى تجميد التاريخ، لا دفعه إلى الأمام.

أمام هذا التحول، تصبح آليات التعامل العربى معه ضرورة، لا رفاهية. 

أولها: إدراك أن واشنطن لا تنسحب، لكنها تغيّر شكل حضورها، وعلى العواصم أن تملأ الفراغات الإقليمية قبل أن تفعلها قوى منافسة. 

ثانيها: تحويل الاستقرار الداخلى إلى أداة قوة تفاوضية، لا مجرد مطلب اجتماعي. 

ثالثها: بناء شراكات اقتصادية وتقنية عابرة للحدود تجعل المنطقة رقمًا صعبًا، لا مجرد مساحة صديقة.

رابعها: تطوير مقاربة عربية موحدة للأمن الإقليمى، تضمن ألا تتحول المنطقة إلى مجرد ملحق لاستراتيجيات الآخرين.

 

هكذا تبدو الاستراتيجية الأمريكية الجديدة،وثيقة بلا ضجيج، لكنها مُحملة بدلالات كبرى. لا تعلن انسحابًا، ولا تعد بتحولات كبرى، لكنها تقول بوضوح إن الشرق الأوسط لم يعد مركز العالم. وتلك ليست دعوة للتراجع، بل دعوة للاستيقاظ.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية