تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

زمن الجدل من أجل الجدل

ما زلت أذكر ما كان يجرى منذ أكثر من نصف قرن، عندما كنا نجلس بعد انتهاء اليوم الدراسى فى قاعة اجتماعات مجلس اتحاد طلاب جامعة عين شمس، ويبدأ الحوار من حوالى الساعة الخامسة مساء، ويستمر إلى ما بعد منتصف الليل، وترفع الجلسة لتستأنف فى أيام متلاحقة، لا أذكر عددها.

 

وكانت جلسات الجدل تدور بين الناصريين وبين الماركسيين، وتتعدد موضوعاتها ابتداء من قضية المنهج.. ثم قضية النظرية.. ثم قضية الدين.. ثم قضايا تتصل بالفرق بين الصراع الطبقى والصراع الاجتماعي، ومفهوم الاستغلال وهل يقتصر على فائض القيمة أم يتجاوزه إلى أبعاد أخرى، ودور البرجوازية، وخاصة الصغيرة فى حركة التاريخ، ودور الفرد البطل أو القائد الكاريزمي، ومفهوم القومية، ودور الانتماء القومى فى الحركة التاريخية، وهل الارتباط بين المادية التاريخية والمادية الجدلية ارتباط ميكانيكى أم تفاعلى ومتغير، وهل العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية علاقة الغلبة والتقدم فيها ثابتان للتحتية، وهى الفاعلة فى التطور الإنساني، أم أن البنية الفوقية من أفكار وتصورات وأدبيات يمكن أن تتقدم فى ظروف معينة أم أن كليهما كالمقص لا يمكن نسبة قطع الورق لأحد جانبيه فردة واحدة، بل يتم القطع بحركة الجانبين، أى الفردتين.. قضايا بلا حصر والاحتقان والتشدد، وأحيانًا الصراخ وكثيرًا الاستهزاء والاتهام بالتلفيق والترقيع، ما كان يعلو ويسود.. أى أنه كان جدلًا من أجل الجدل ومن أجل إفحام الخصم وتثبيته بلا حراك!

ثم جاء العام 1972 ليعقد الراحل كمال أبو المجد أول مؤتمر للجماعات الإسلامية تحت مسمى اللقاء الإسلامى الأول فى فبراير 72، ليردوا به على لقاء ناصر الفكري، الذى كنا نعقده بعد رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، وكان يحضره رجالات الدولة، وينيب فيه الرئيس السادات الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى للحضور ممثلًا عنه، وكان الدكتور رفعت المحجوب والدكتور محمد حافظ غانم متعاقبين فى ذلك المنصب، وحضرا اللقاء نيابة عن الرئيس ومعهما سيد مرعى وآخرون.

والمهم أن دائرة الجدل لأجل الجدل اتسعت بعد أن وجدت الجماعات الإسلامية سبيلها للظهور فى الجامعة، مدعومة من بعض الجهات الرسمية، وفى عام 1972 نفسه هجموا على الجلسة الرئيسية للقاء ناصر الفكري، وحضروا ودعوا للمنصة ليقولوا إن القومية العربية عصبية نتنة نهى عنها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأن الاشتراكية كفر بواح لأنها هى الشيوعية مستترة باسم آخر، إلى آخر أطروحتهم، واحتدم الجدل فى قاعة كل من فيها متوتر متحفز، لدرجة أن أحد القياديين من الاتجاه القومى أغمى عليه!

وغاية القول إن المحروسة شهدت مرحلة كان فيها الجدل هو الزاد والقوت للشباب والعواجيز، فيما كان العدو يحتل الأرض، والقوات المسلحة تواصل التدريب بالعرق والدم لاستخلاص الأرض واسترداد الكرامة.

وكذلك أعترف بأن المخاوف التى انتابتنى عندما أعلن عن الحوار الوطنى كان ومازال مردها إلى تلك الفترة، حيث بقى الذين احترفوا الجدل أكثر ممن احترفوا الحوار، وأظن أن الفرق بين الجدل وبين الحوار هو أن الأخير لا بد أن يكون له هدف، ولا بد أن يطرح فيه ما هو قابل للتنفيذ، وما من شأنه أن يثرى ويضيف للإنجازات العملية المحققة على أرض الواقع، لأن الجدل يحتمل أن يكون عقيمًا وفيه لجاجة وهدفه الانتصار على الخصم لتحقيق التضخم الذاتى والزهو المنتفش بلا إنجاز حقيقي.

ثم إننى سبق أن كتبت واعترفت- ومعى كثيرون- بأننا حمدنا الله كثيرًا أن مسيرة البناء والإنجاز التى بدأت وتعاظمت بعد ثورة يونيو لم يكن الجدل أو الحوار شرطًا لبدئها، وإلا ما كان تحقق رصف متر واحد من الطرق، ولا تحقق إضافة أو تطوير قطعة سلاح واحدة لقواتنا المسلحة، ولا تحقق الانطلاق فى مقاومة الإرهاب حتى اقترب استئصاله، ولا تحقق الانطلاق أيضًا فى سياسة خارجية متميزة نحصد الآن نتائجها مع نتائج البناء والتطوير.

وأظن أن حالة الجدل الحوارى فى السودان وفى ليبيا وفى اليمن وفى غيرها؛ تثبت أن رهن مصائر الأوطان بأن يتوصل الفرقاء لتفاهم واتفاق أمر صعب، بل وخطير، فى زمن أضحى الكل يعرف أن من لم ينجز فيه على أرض الواقع مهدد بالهلاك الكلي.

إننى أتمنى أن تكون هيئة أمناء الحوار الوطني- ومعها كل التكوينات المتصلة به- قد وضعوا جداول موضوعية وزمنية للقضايا المطروحة للحوار، وأن تكون القضايا- ومعها أساليب الحوار- قابلة للتنفيذ، تؤسس لما هو عملى جديد نافع، أو تضيف كميًا ونوعيًا لما هو قائم، وحمى الله وطننا من أن نتنازع وتذهب ريحنا.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية