تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
جوهر الاستعمار مستمر
لم أتمكن، رغم التدقيق بنظارة القراءة وبعدسة مكبرة، من أن أتبين اسم رسام الكاريكاتير الموهوب الذى صوّر القارة الإفريقية «كيسً شوال» عميقًا تظهر من فتحته العلوية كمية ضخمة من الحبوب، وصوّر فرنسا على هيئة ديك يتناول طعامه من تلك الفتحة وريشه يحمل ألوان العلم الفرنسي.. فتحية لهذا الفنان، حيث جاء مع الرسم سؤال استنكارى استفهامى على ضوء حقيقة أن ذهب فرنسا من غينيا، وأثاثها من خشب الكونغو، ووقودها من بترول الجابون، وكهرباءها من يورانيوم النيجر، وهواتفها من كوبالت الكونغو، والشوكولاتة من كاكاو ساحل العاج، والسيارات من حديد موريتانيا، ثم وصولها لكأس العالم فى الكرة بمواهب إفريقية.. فكيف لها أن تتنازل عن مستعمراتها أو نفوذها فى القارة إلا بالقوة؟!
وقد قرأت الرسم والتعليق أكثر من مرة لأجدنى أضيف إليه أن درة محتويات اللوفر هى جناح الآثار المصرية الضخم المنهوبة من مصر، وأن ثمة أمرًا لا يقل أهمية عن اليورانيوم والذهب والحديد والخشب والكوبالت والكاكاو، هو ما قد أسميه ما مثّلته إفريقيا من مجال لتكريس شعور التفوق وعنجهية العظمة لدى الفرنسيين عندما مارسوا الغزو المسلح لاستعمار شعوب القارة الإفريقية، وعندما صارت اللغة الفرنسية وثقافتها عنوانًا تنسب إليه لغة وثقافة شعوب بأسرها الفرانكفونية، وبما يعنيه ذلك من زهو وأحيانًا استعلاء فرنسى، الأمر الذى يعد مكسبًا استعماريًا لا يقل- إن لم يزد- قيمة عن تلك المواد الخام المنهوبة، حيث لا تقتصر الظاهرة على فرنسا وحدها، وإنما تمتد لتشمل كل الدول الاستعمارية القديمة، التى وجهت جيوشها لتوسيع رقعة نفوذها، ووصل بعضها إلى أن يصبح إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
إننى أعلم أن هناك من لن يتفق مع هذا الكلام، وسيعتبره اجترارًا مرضيًا للشكوى من ظواهر كانت هى سمة عصرها الذى بدأ بالكشوف الجغرافية ثم توالت فيه الطلعات الاستعمارية البرتغالية والإسبانية والهولندية ثم الفرنسية والبريطانية والبلجيكية والإيطالية، وأن الأمر لم يقتصر على إفريقيا وحدها بل امتد لآسيا، خاصة الهند وسيلان وغيرهما، وامتد لأمريكا الجنوبية، وأنه أمر قد حدث وصار ما صار وانتهى الأمر بحيث لم يعد هناك مجال لفتح الجروح المندملة!
ورغم هذا المنطق الذى يريد فى أحسن الحالات النظر للمستقبل والتحرر من أسر الماضى، إلا أننى أعتقد أن الحقبة الاستعمارية القديمة لم تنته، حتى لو خرجت الجيوش وأعلن الاستقلال وتمت العضوية فى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والقارية والإقليمية، إذ تبقى جوهر تلك الحقبة، وهو استنزاف موارد شعوب كثيرة، وهو السعى غير المتوقف لشل قدرتها على التقدم والرفاهية بتكريس النزوعات الانفصالية والتفتيت الدينى والطائفى والمذهبى والعرقى، واجتثاث جذور الثقافات الوطنية وتراثها الحضارى، وإشاعة الاستقطابات داخل القارة.. تارة بين إفريقيا شمال الصحراء- أى إفريقيا الناطقة بالعربية- وبين إفريقيا جنوب الصحراء.. وتارة بين شرق القارة وبين وسطها وبينهما وبين غربها، وأخرى بين دول منابع المياه ودول المصبات، ثم عدم الممانعة بالكيل بأكثر من مكيال، فيتم القبول بالتغيير بواسطة الجيوش فى بعض البلدان، بل وتشجيعه والترحيب به، ويتم الرفض فى بلدان أخرى والحشد لمقاومته بالقوة المسلحة إن أتيح الأمر.
إننى لا أريد أن أستطرد بحيث يبدو الحديث وكأنه توجه عنصرى ضد الجنس الأبيض الأوروبى والأمريكى، وإدانته إدانة كاملة بما ارتكبه بعض ساسته ونظم حكمه فى حق شعوب العالم الثالث، بل وأيضًا فى حق الشعوب الأوروبية التى دفعت أثمانًا فادحة فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن قبلهما فى حروب المائة عام والسبعين والثلاثين، ولكن ما أود أن أنتهى إليه هو أن تلتفت بعض الدول الأوروبية التى لاتزال تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الموارد الطبيعية والخامات ومصادر الطاقة فى دول الجنوب- ومنها إفريقيا- إلى العمل على تنمية وتقدم شعوب هذه الدول، وعلى توفير ما يلزمها من خبرات علمية أكاديمية وتقنية تطبيقية كى تحقق تقدمها، وأن تكف أصابع العبث الدموى فى الوحدة الوطنية لهذه الشعوب إذ تعنى هذه الوحدة كل جوانب الوجود الإنسانى حضاريًا وثقافيًا ودينيًا وكل ما هو معنوى.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية