تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

تحويل الغربة إلى وطن

فى ثمانينيات القرن العشرين، اقتربت كثيرًا من قادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتقيت مرارًا بياسر عرفات فى لبنان وفى الإمارات، كما التقيت خالد الحسن وأخويه هانى وبلال.. وأيضًا خليل الوزير وهايل عبدالحميد وصلاح خلف.. أى أبى جهاد وأبى الهول وأبى إياد.

 

وذات ندوة اشتبكت مع ربحى عوض عندما أطلق حنجرته فى مصر وفى عبدالناصر، وهو بصدد الانحياز لدولة عربية نفطية، وكان ذلك عام 1980.. ورغم تعدد الحوارات واتساعها إلا أنهم لم يبوحوا بتفاصيل واضحة عن نشأتهم ومسارهم.. وللأسف فإن معظمهم مات فى فراشه أو بيد الصهاينة فى استراحات تونس وبيروت.

وقد لاحظت أن اغتيال أبى جهاد وأبى إياد وأبى الهول تم ومن بعده مباشرة حدثت نقلة كبيرة فى مسار منظمة التحرير والمقاومة ككل، وكانت أوسلو وكان لقاء عرفات برابين تحت رعاية أمريكية، وهذا الأمر يجعل السؤال الحائر فى ذهنى هو: هل يكون اغتيال قادة المقاومة فى غزة وفى لبنان مقدمة حتمية ومتفقًا عليها بين أطراف ما على الجانبين لأجل الوصول لتسوية مرحلية أخرى، أو حتى تسوية نهائية؟!

ولأن الله وحده هو من يعلم كيف تمكن الصهاينة من اغتيال آباء المقاومة فى استراحاتهم بتونس أو بيروت، إلا أن سؤالًا آخر يدور فى الذهن هو: هل حلم أحدهم بأن يلقى حتفه وهو يحمل سلاحه ويقاتل فى قلب المعركة فوق أرض فلسطين مثلما حدث مع يحيى السنوار تحديدًا؟!

لأن السنوار سيبقى أبد الدهر نموذجًا للمقاتل الفدائى، الذى لم يغادر أرضه وبقى مقاومًا مقاتلًا حتى استشهد، وبصرف النظر عن موقف البعض الذين يرون فيه مغامرًا لم يحسب بدقة النتائج المباشرة وغير المباشرة التى ستترتب على عملية السابع من أكتوبر 2023، ويرون أن ما قام به، هو ومن معه، أدى إلى كارثة دمار غزة، ولذلك كان عليه أن يتحمل وزر ما جرى.

ثم بصرف النظر عن رأى آخرين- أنا منهم- وهم الذين يفصلون بين المنطلقات الفكرية والسياسية لحماس وقادتها وعلاقتهم بالإخوان والمرجعية الدينية عمومًا، وبين أنهم ضمن حركة تحرر وطنى فلسطينى شرعية ومشروعة، ويحق لها أن تستخدم كل ما من شأنه أن يُحرر الأرض ويزيح الاحتلال إلا أن السنوار ومعه زملاؤه، الذين قضوا نحبهم، والآخرون الذين ينتظرون وما بدلوا تبديلًا، يبقون فى ضمير كل أحرار العالم نموذجًا فريدًا لحركة مقاومة استطاعت الصمود فى وجه الكيان الصهيونى وجيشه المدجج بأعتى وأقوى وأحدث الأسلحة، والمتحالف مع الولايات المتحدة ودول كبرى فى الغرب.

لقد وصلتنى وصية يحيى السنوار فور استشهاده وقبل أن تنشر على نطاق واسع فى وسائل الاتصال.. وفى هذه الوصية التى لم يترك مثلها آباء المقاومة الذين ذكرت أسماءهم، وكانوا ملء السمع والبصر؛ يتحدث السنوار عن سيرته الذاتية، فيقرر أنه ابن للاجئ حوّل الغربة إلى وطن مؤقت وحوّل الحلم إلى معركة أبدية، وأنه ولد فى مخيم خان يونس عام 1962، وفى زمن كانت فيه فلسطين ذاكرة ممزقة وخرائط منسية على طاولات الساسة.. وأنه هو الرجل الذى نسجت حياته بين النار والرماد، وأدرك مبكرًا أن الحياة فى ظل الاحتلال لا تعنى إلا السجن الدائم، وأنه تعلم فى شوارع غزة أن الإنسان لا يقاس بسنوات عمره بل بما يقدمه لوطنه.

ويروى كيف دخل السجن لأول مرة عام 1988 بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكنه لم يعرف للخوف طريقًا.. ثم يسطر فى سطور وصيته عبارات تصلح أن تكون دستورًا أو منهجًا يلهم كل المقاومين الساعين للحرية والتحرر، ويوجه كلامه لشعبه بأن يظل متمسكًا بالبندقية وبالكرامة التى لا تساوم، وبالحلم الذى لا يموت، لأن العدو يريد أن نتخلى عن المقاومة، وأن نحوّل قضيتنا إلى تفاوض لا ينتهي.

ثم يضع الرجل النقاط على الحروف فيما يتعلق بعملية السابع من أكتوبر، فيقرر أنه فى طوفان الأقصى لم يكن قائدًا لجماعة أو حركة، بل كان صوتًا لكل فلسطينى يحلم بالتحرر، وأنه قاده إيمانه إلى أن المقاومة ليست مجرد خيار بل هى واجب، وأنه أراد أن تكون هذه المعركة صفحة جديدة فى كتاب النضال الفلسطينى، حيث تتوحد الفصائل ويقف الجميع فى خندق واحد ضد العدو الذى لم يفرق يومًا بين طفل وشيخ أو بين حجر وشجر.

ووصيته الأخيرة أن يتذكر الفلسطينيون دائمًا أن المقاومة ليست عبثًا وليست مجرد رصاصة تطلق بل هى حياة نحياها بشرف وكرامة.. وإذا عاد الطوفان ولم يكن بينهم فليعلموا أنه كان أول قطرة فى أمواج الحرية.

ويأتى السطر الأخير فى كلمات تقول: «كونوا شوكة فى حلقهم، طوفانًا لا يعرف التراجع، ولا يهدأ إلا حين يعترف العالم بأننا أصحاب الحق، وأننا لسنا أرقامًا فى نشرات الأخبار».

وبعد أن قرأت الوصية السنوارية مرارًا تذكرت لقاء جمعنى ومعى السيدين محمد فائق ومحمد عروق مع الرئيس الجزائرى الأسبق أحمد بن بيلا فى بيت صغير عقب خروجه من سجنه الطويل، حيث قال إنه غير مرتاح بل يشك فى قدرة قادة المقاومة الفلسطينية آنذاك- فى الثمانينيات– على إحراز نصر على الصهاينة لأنهم يعيشون مرفهين ويركبون السيارات الفارهة، بينما كان هو وثوار الجزائر حفاة يحملون السلاح فى الجبال.. ولذلك انتصرت الثورة الجزائرية.

ولا أخفى أن أسلوب حياة السنوار وقتاله حتى الموت على أرض وطنه جعلني- رغم كل الألم مما حدث لشعب غزة- واثقًا فى أن الحق سينتصر مهما طال الزمن، لأن أهل هذا الحق يسلكون سبيله الحق.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية