تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
البذور فى الأرض البور
أستأذن فى انعطافة، ربما تبدو للبعض بعيدة عن المعتاد السياسى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى لصفحات الرأى.
أنعطف إلى جلال الدين الرومى.. مولانا الذى كثيرًا ما يؤنس وحدتى وخلواتى النهارية والليلية، وكثيرًا ما يشاركه فى الإيناس الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي.. وقد أسعدنى حظى مرات بزيارة الشيخ الأكبر فى حى «شيخ محيى الدين» بدمشق، حيث الدرج النازل لجوف الأرض بجوار المسجد الذى بناه سليم الأول العثمانى عام 1515 ميلادية، وهناك يرقد محيى الدين الذى جاء من الأندلس.. وعلى حائط المرقد عبارات عن واقعة انتقاله ومن حضر وقام بغسله وتكفينه، ثم لوحة فيها صيغة صلاة على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهى صيغة فريدة فى كلماتها لا يفهمها إلا من ارتقى ذوقه فى مدارج الارتقاء.. ونصها: «اللهم صلّ على طلعة الذات المطلسم والغيث المطمطم والكمال المكتم.. لاهوت الجمال وناسوت الوصال وطلعة الحق.. هوية إنسان الأزل فى نشر من لم يزل.. من أقمت به نواسيت الفرق إلى طريق الحق. فصلِّ به ومنه وعليه وسلم تسليمًا».
ثم إننى زرت مولانا جلال الدين فى مرقده بقونية التركية، وهى مدينة الورد والكباب القونى متفرد الطعم، وقد استأذنت أولادى - وكنا صحبة نزور تركيا وتمركزنا فى اسطنبول - وقلت إن لى صديقًا قديمًا فى قونية أود زيارته ولم يجادلونى، فذهبنا إلى مولانا وجلسنا فى حديقة الورد الأحمر القانى، وعشنا ساعات بين المشاهد المعممة بشال أخضر فوق اللبدة أو الطربوش الطويل، وبين غرف الدراويش.
وفى أحد المساءات حضرنا حضرة مولوية أصيلة تقاسم الناى والقانون افتتاحها، وهدأ شهيق وزفير كل الحضور فيما المولويون يدخلون بقاماتهم السامقة وأذرعهم المفرودة.. والكف اليمنى متجهة لأعلى واليسرى متجهة لأسفل، والساق اليمنى تثبت لتدور اليسرى، ونقيب الحضرة فى المنتصف والكل يدور من حول نفسه ومن حول النقيب كالأفلاك تدور حول نفسها وحول الشمس!
وفى المثنوى الذى أسبح فيه وأغرق، قرأت ما يلى حول الصياد المحترف الذى اصطاد عشرات من البقر والضأن، ثم اصطاد طائرًا ضعيفًا، ويقول النص: «لقد صاد أحدهم بمكره وفخه طائرًا، فقال له الطائر: أيها السيد الهمام! لقد التهمت كثيرًا من البقر والشياه، وذبحت كأضحية كثيرًا من الجمال، لكنك لم تشبع منها فى وقت ما، ولن تصير شبعًا من أعضائى هذه، فأطلقنى حتى أقدم لك نصائح ثلاثا، وحتى تعلم هل أنا ذكى أم أبله.. وسوف أقول لك أولى تلك النصائح وأنا على يدك، والنصيحة الثانية أقولها وأنا فوق جدارك الطينى هذا، أما النصيحة الثالثة فأقولها لك وأنا فوق الشجرة، وسوف تكون سعيدًا مقبلًا من هذه النصائح..
وهاك النصيحة الأولى وأنا فوق يدك: لا تصدّق من أحد محالا، فأطلقه الرجل ليقف الطائر على الجدار، وقال النصيحة الثانية: لا تأسفنّ على ما فات، وما دام قد فات فلا تتحسرنّ عليه، ثم قال الطائر: إن هناك لؤلؤة يتيمة وزنها عشرة دراهم مخفية فى جسمى، لقد كانت هذه الدرة ثروة لك وحظًا لأولادك وقد أضعت هذه اللؤلؤة فلم تكن رزقًا لك، وليس لها مثيل فى الوجود!
فأخذ الرجل ينوح وكأنه امرأة أتاها المخاض، فقال الطائر: ألم أنصحك بألا تأسف عما فاتك بالأمس.. فكيف تحزن ما دام قد فات ومضى؟ إما أنك لم تفهم النصيحة، وإما أنك أصم، أولم أقل لك فى النصيحة الأخرى: لا تصدق أبدًا القول المحال؟! إن وزنى كله لا يصل إلى ثلاثة دراهم أيها الأسد، فكيف يكون فى جسدى ما وزنه عشرة دراهم؟ فانتبه الرجل وقال للطائر: هيا، قدم لى النصيحة الثالثة الطيبة، فقال الطائر: هل عملت بالنصيحتين الأوليين، حتى أقدم لك الثالثة بالمجان؟ واستطرد الطائر: إنّ تقديم النصيحة للجهول النّائم هو بمثابة بذر البذور فى الأرض البور، وإنّ فتق الحمق والجهل لا يقبل الرّتق، فقلّل بذار الحكمة فيها أيّها الواعظ».
انتهى الاقتباس وأظنه من صميم الفكر والسياسة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية