تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الاتصال بين يونيو ويوليو

بحكم عوامل عديدة متشابكة، منها الجغرافيا والتاريخ بفروعيهما، ومنها الحضارة بشقيها الثقافى والمدني، ومنها الدين ومعطياته عبر مراحل تبلوره كمعتقد منذ التاريخ القديم لمصر وإلى الآن، ومنها دوائر الدور الأمن القومى المصري، وما يرتبط به من علوم ويحكمه من ضوابط وخطوط؛ بقيت القضايا المطروحة على عقل ووجدان الأمة المصرية ماثلة وإن اختلف ترتيب أولوياتها منذ إطلالة مصر على العصر الحديث فى القرن الثامن عشر، وخاصة على جدول أعمال الحركة الوطنية المصرية منذ مقاومة الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت، ومرورًا بثورات 1805 و1882 و1919 ثم 1952 وإلى يناير 2011 ويونيو 2013. ولذلك فليس تعسفًا أن نربط بين ثورة يوليو 1952 وبين ثورة يونيو 2013 من حيث إن كليهما تصدى للتعامل مع قضايا الاستقلال الوطني، والدفاع عن أمن مصر، وتأمين ترابها.. وقضايا العلاقة بين النهر والبحر والصحراء، وقضايا التماسك المجتمعى وتمكين التنوع الاجتماعى والدينى والمذهبى والجهوى والثقافى من أن يبقى مصدر قوة للكل الوطني، وقضايا الدور المصرى فى المحيط العربى وجواره الذى اصطلح على تسميته «الشرق الأوسط»، وفى العمق الإفريقى وفى المدى الدولى وخاصة العالم الثالث، ومحاولة التوازن فى التعامل مع القوى الكبرى الفاعلة غربًا وشرقًا. ولم تكن مفارقة أن تبقى مقاومة ومحاربة الإرهاب أحد القواسم العظمى المشتركة بين الثورتين، ابتداء من المواجهة الكبرى عام 1954 وإلى ما جرى فى بولاق الدكرور منذ أسابيع، مرورًا بمحطات بالغة الأهمية شهدت ما يعد حربًا شاملة على الجبهات الخمس، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا وفى عمق مصر، حيث كان الإرهاب قد استشرى وتمكن، وخاصة بعد أن تحالفت قوى إقليمية ودولية على دعم وصول جماعة الإخوان الإرهابية إلى الحكم، وتغلغل عناصرها فى مفاصل بعض مؤسسات الدولة. وحتى أكون أكثر اقترابًا من الدقة فإنه على الرغم من عدم جواز عقد مقارنات بين مراحل تاريخية لأن لكل مرحلة ظروفها الموضوعية الحاكمة لها إلا أننى أشير إلى أن التحديات التى يجابهها نظام ثورة يونيو 2013، وخاصة تحدى الإرهاب والأمن الاستراتيجي، ومعه تحدى بناء الإنسان وتعميق الوعى الوطني، وكذلك تحدى الزيادة السكانية والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية؛ هى تحديات أكثر جسامة وأشد تعقيدًا. ثم إن هذا الاتصال بين الثورتين هو من صميم المنهج العلمى لقراءة التاريخ، أى دراسته واستيعاب دروس مراحله، وهو منهج وجود خط بيانى متصل، فيه قمم وانحدارات ولكنه متصل. والكارثة التى تضرب مسارنا التاريخى والحضارى فى مقتل، هى أن يتم قطع اتصال الخط البيانى أو اتصال الدوائر، لأن تاريخ البشرية هو فى الحقيقة تاريخ تراكم واتصال المراحل التاريخية، وبغير ذلك فلا تقدم ولا تطور ولا إنجاز.. لأن الانقطاع يعنى أن كل مرحلة تبدأ من الصفر وتصل إلى نمو معين ثم تتوقف ويتلاشى اتصالها بما بعدها، ، وعليه فإن الوجدان الوطنى الجمعى فى مرحلتنا هذه يصر على أن تستكمل ثورة يونيو 2013 مسارها على كل الأصعدة، لتنجز أهدافها وتتمم مهمتها وتبنى خطها البيانى المتصل بإنجازات مرحلة يوليو التى سبقتها، والحذر من سلبياتها لتأتى مرحلة جديدة غير منفصلة عن المرحلة الحالية وهلم جرا. ولقد يتعمد بعض الذين يقترفون مهنة الكتابة أو حرفة الخبرة الإستراتيجية؛ تمزيق تاريخ الوطن والتركيز على مهمة الفصل بين مراحله، خاصة من 1952، وتضخيم السلبيات وتعمد تزييف الوعى الوطني، ومن ذلك تركيزهم على اعتبار معارك مصر لتحقيق جلاء الاحتلال البريطانى وتأميم قناة السويس كجزء من السعى للسيطرة وامتلاك موارد الثروة الوطنية، وتحقيق الاستقلال الوطنى والتنمية المستقلة، وإقامة الوحدة مع سوريا ومد العون لشعب اليمن كجزء من تحقيق أمن مصر القومى الممتد من القرن الإفريقى وباب المندب إلى منابع نهرى دجلة والفرات شمالًا.. اعتبارهم ذلك وغيره مغامرات وتجاوزات، بل تراهم لا يكفون عن تكريس حتمية الاستسلام للعدو الصهيوني، والتعامل مع إسرائيل التى تسعى لتكون «الكبرى» وتكون هى القوة الأولى القائدة للمنطقة، واعتبار أية مقاومة أو رفض لذلك عنتريات فارغة إلى آخر الأطروحة التطبيعية. وهنا قادتنى الصدفة لأشاهد فيلمًا سينمائيًا أجنبيًا اسمه «الساعة الأشد حلكة أو ظلامًا»، ويحكى عن بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية، ومجيء ونستون تشرشل إلى رئاسة الوزارة فى عهد الملك جورج السادس.. والصراع بين منهج حتمية المقاومة وعدم الاستسلام حتى وإن أدى الأمر إلى فناء الجزر البريطانية ويمثله تشرشل واتلي.. وسانده الملك جورج السادس، وبين منهج حتمية التفاوض مع هتلر والاستسلام لتفوقه وتوسيط موسولينى فى ذلك، ويمثله رئيس الوزراء السابق تشمبرلين والوزير اللورد هاليفاكس. وفى لقطة شديدة الوضوح وبالغة العمق، دار حوار بين تشرشل والملك جورج السادس، حيث كان الأول بصدد التسليم بالدخول فى مفاوضات الاستسلام أمام قوة هتلر والنازية الرهيبة المتقدمة على كل الجبهات، ولكن الملك همس لتشرشل بأن ينزل للشعب البريطانى ويستمد منه الرأى والتوجه الذى يجب على الدولة المضى فيه، ونزل تشرشل مترجلًا من سيارته واختفى فى زحام البريطانيين، وركب المترو وأجرى حوارات مع أفراد عاديين ووجدهم جميعًا يؤيدون عدم التفاوض وعدم الاستسلام وعدم الرضوخ لهتلر، ورفض كل ما عدا المقاومة حتى آخر بريطاني. وعاد تشرشل للبرلمان ووقف خطيبًا ليقرأ على البرلمانيين البريطانيين ما سجله من أقوال عامة الناس، واضطر تشمبرلين أن يرضخ ويرفع منديله الأبيض، علامة لنواب حزب المحافظين ليؤيدوا موقف تشرشل. وبعد الفيلم قلت لنفسي: لو أن بعض الاستراتيجيين المصريين المعاصرين الآن كانوا هناك لوصموا تشرشل وجورج السادس بالديماجوجية والشعبوية والحنجورية.. ولكن الله ستر!

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية