تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

استراحة ظليلة

يبحث المرء عن ظل يقيه القيظ والحرارة، ولطالما آويت مع بعض أهلى الفلاحين، ومعنا أنفار نقاوة دودة القطن، وأقرانهم جامعو القطن بعد تفتح لوزه وازدهار بياضه، وأمثالهم حاصدو القمح؛ إلى ظل أشجار الجميز والتوت والكافور والسنط والسرو والأثل، الموزعة على جسور الترع ورؤوس الغيطان وحول مدارات السواقى، وهو الظل الذى غنت له الست أم كلثوم من كلمات أحمد رامى ومن مقام النهوند: مصر التى فى خاطرى وفى فمى.. أحبها من كل روحى ودمى إلى أن تقول: عيشوا كرامًا تحت ظل العلم.. تحيا لنا عزيزة فى الأمم.. أحبها لظلها الظليل بين المروج الخضر والنخيل... نباتها ما أينعه.. مفضضًا مذهبا.. ونيلها ما أبدعه يختال ما بين الربى.

ولأن القيظ الدولارى اشتدت حرارته لتلوح الجلود، وما من مروج خضر ونخيل كتلك التى كنا نلجأ إليها، فكان البديل هو الاستظلال بكل ما هو متاح من ظل معنوى، يحيى فى العقل والنفس والوجدان، القدرة على تحمل شقوة الوباء والغلاء ورحيل الأصدقاء.

ومن حظى أن أستسلم لدور البرد العنيف الذى منعنى من الكتابة الأسبوع الفائت، وأن أستظل بما جدله الراحل الفذ الدكتور عصمت سيف الدولة، من ضفائر مصرية خالدة فى مذكراته التى حملت عنوانين لكتابين منفصلين، أولهما مذكرات قرية، وثانيهما مشايخ جبل البدارى من إصدارات كتاب الهلال أغسطس 1995 ومايو 1996، وتقديم الراحل النابه رفيع الثقافة مصطفى نبيل.

ولأننى مولود فى الدلتا، أى الوجه البحرى، فلم أعرف لا أنا ولا آبائى وأجدادى رى الحياض، الذى عرفه صعيد مصر كاختراع عبقرى للتعامل مع فيضان النيل، والتحكم فى القوة الرهيبة لاندفاع المياه، لذا أبقى منبهرًا بحديث الدكتور عصمت عن رى الحياض، وعن الزراعة فيها، وعن مشاهد اجتماعية وأنثروبولوجية أظنها لم ترصد بالطريقة العصمتية، وأعتقد أنها بغير شبيه فى مجتمعات أخرى غير صعيد مصر.. وتعالوا نأخذ هذه اللقطة عن الفيضان فى أيامه الأولى: فى الأيام الأولى من الفيضان تتدفق مياه النيل العكرة بالطمى إلى المصرف الأول الذى يلى البيوت؛ طاردة ما كان فيها راكدًا، مطهرة مجراه من النفايات العفنة، ومن صغار أطفال الطين كى لا يغرقوا، ويتحدى تيارها صبية آخرون ينزلون إليه من بيوتهم، وعلى كل واحد منهم جلباب أبيض تتناثر على مقدمته بقع جافة من الدماء داكنة، وقد علق فى رقبته خيطًا دقيقًا امشوهرة، وهى قطعة قصيرة دقيقة من سعف النخيل الأخضر حفرت عليها دوائر غير عميقة، يمشى كل منهم وقد باعد بين قدميه وساقيه وأبعد جلبابه بإحدى يديه، حتى لا يلمس الجلباب جرح الختان، فإذا ما حاذت المياه الجارية أعلى أفخاذهم رفعوا جلاليبهم ليتيحوا للمياه الدافقة فرصة تطهير الجروح مما قد يكون بها من صديد.. ويبقون هكذا واقفين كسربٍ من طيور أبو قردان بضع ساعات، وهم سعداء بأن دخلوا مرحلة الإعداد الجراحى لمرحلة الرجولة، ويعلمون أن بعض أعضائهم أعز من الآخر، فيتفاخرون بحظوظهم بما هو عزيز، وهم يتضاحكون حتى إذا ما اكتفوا انصرفوا إلى بيوتهم مهرعين.

وهناك تكون كل أم ذات ابن جريح قد أعدت دواء الجرح؛ إذ أنزلت من فوق سطح البيت بضعة من بوص القيضى القديم تتأمله، حتى إذا ما لمحت خرمًا دقيقًا نزعت القشرة؛ فإذا بلباب البوص وقد حوله السوس إلى دقيق تجمعه الأم فى آنية، فإذا عاد المحروس ابنها من نهر التطهير رشت على جرح الطهارة دقيق البوص، فكان فيه الشفاء العاجل بإذن الله، ولم يحدث أبدًا- فيما يذكر أهل القرية- أن استعصى الشفاء على ذلك الدواء، واسأل مجربًا ولا تسأل طبيبًا.. فلا ختان قبل الفيضان ولا بعد الفيضان.

ولقد أثق فى أن مذكرات قرية بجزأيه للدكتور عصمت سيف الدولة يعد من أهم- إن لم يكن أهم- ما كتب عن ريف صعيد مصر، الذى يشهد الآن نهضة حديثة شاملة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية