تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

92 عاما على مولد سيد يسين

كانت القراءة الثانية المتمعنة قليلًا، بعد قراءة أولى سريعة، لكتاب أظنه مهمًا فى مجاله الذى قد يعبر عنه عنوانه «النظام السياسى فى مجتمعات متغيرة»، وربما يزيد من أهميته أن مؤلفه هو صمويل هنتنجتون، وأن من كتب له التصدير هو فرانسيس فوكوياما.. وترجمه القدير المتميز الأستاذ الدكتور حسام نايل، وصدرت طبعته العربية الأولى عام 2017.

وطيلة الوقت مع صفحات الكتاب، وخاصة فصله السادس عن الإصلاح والتغيير السياسي؛ لا يبارح ذهنى الأستاذ سيد يسين، رحمة الله عليه ومغفرته له، لأننى أدركت كم كنت مخطئًا فى حق المعرفة عندما كنت أتندر على كثرة استشهاده بمصادر ومراجع أجنبية يذكر عناوينها وأسماء مؤلفيها فى محاضراته وندواته، ولى معه واقعة شهيرة خلال ندوة موسعة عقدتها الهيئة الإنجيلية فى إحدى المدن الساحلية وصارت معركة صحفية بيننا.. ولم تمض فترة طويلة حتى اتسع صدره ليحدث تواصل بيننا، بعد تدخل من الصديق المشترك الأستاذ نبيل عبدالفتاح، وتعمّقت العلاقة حتى صارت صداقة عميقة راسخة. ولذلك أكتب عنه اليوم بمناسبة ذكرى مولده فى سبتمبر 1933، أى منذ تسعين عامًا وعامين.. أكتب عن عالم متميز وباحث فذ فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، اتسم بمنهج علمى صارم لزم به نفسه وعلّمه لمن شاء قدرهم الطيب أن يتتلمذوا عليه أو يشاركوه فى أبحاثه ومشاريعه العلمية.. كل ذلك بقى فى تركيبة إنسانية بالغة الرقى عميقة الوعى بالوطن ومسيرته ومستقبله.

ولد سيد يسين فى الإسكندرية ودرس الحقوق بجامعتها، والماجستير من جامعة القاهرة فى علم الاجتماع والعلوم السياسية، والتحق بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية باحثًا، إلى أن سافر لفرنسا ليدرس القانون والعلوم الاجتماعية فى جامعتى ديجون وباريس، وحسب المصادر المتاحة فى الشبكة العنكبوتية فقد اهتم خلال فترة فرنسا من 1964 إلى 1966 بعلم الاجتماع الأدبى الذى كان ناشئًا وقتها، وكذلك علم الاجتماع السياسى، وعاد لمصر لينضم عام 1968 إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام، الذى أسسه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل بهدف مزيد من المعرفة العلمية للعدو الصهيونى ولأبعاد الصراع العربي- الصهيونى، وأوكل رئاسته آنذاك للأستاذ حاتم صادق رحمة الله عليه، وكان من مؤسسيه معه ومع سيد يسين أسماء لامعة فى ذلك التخصص كأحمد عفيفى وسميح صادق وجميل مطر ووجيه ضياء الدين وغيرهم.

وبعد فترة تحول المركز إلى مركز للدراسات السياسية والاستراتيجية، وظل سيد يسين مشاركًا فى التأسيس الثانى ليصبح رئيسًا للمركز من 1975 إلى 1994، وأسس فيه وحدة للدراسات الاجتماعية. وبعدها انتقل إلى الأردن ليشغل موقع الأمين العام لمنتدى الفكر العربى حتى 1997، ناهيك عن مواقع أخرى مهمة فى الخارجية المصرية، ووزارة البحث العلمى، والمركز الوطنى للأبحاث، والمجلس الأعلى للثقافة وغيرها.

ونال جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 1996، ووسامى العلوم والفنون والآداب من مصر.. والاستحقاق من الطبقة الأولى من الأردن، وجائزة سلطان العويس من الإمارات، وله نحو خمسة عشر مؤلفًا كلها من أهم المراجع العلمية فى تخصصها، وصعدت روحه إلى بارئها صباح الأحد 19 مارس 2017.

وفى فترة صداقتنا القوية كانت جلسات دورية تضم أساتذة وأصدقاء بارزين، على رأسهم أستاذنا الدكتور على الدين هلال، وكانت روح السخرية اللاذعة الكامنة فى تعليقات الأستاذ سيد- وخاصة عندما يتصل الحديث بفئة المتعالمين فى مجالات الكتابة العلمية والصحفية- تضفى على كل لقاء سمة رائعة تخفف من وطأة الضغوط الثقيلة المتشابكة التى بقيت تنوء بكلكلها على الجميع..

ومع روح السخرية كانت له مواقف لا مزاح فيها ولا استهانة، خاصة إذا اتصل الأمر بمصر وتاريخها.. وأذكر شموخه الصلب وهو يرد على أحد من سألوه عقب محاضرة له عن الثقافة المصرية، ألقاها فى الصالون الثقافى الذى كان يعقده يوم الأربعاء من كل أسبوع السفير السعودى الراحل الدكتور هشام محيى الدين ناظر.. إذ جاء السؤال وفيه تهجم مزرٍ على ثورة يوليو وكيف أنها أضاعت ما كان قبلها من عظمة ثقافية.. وإذا بالأستاذ سيد يرد بمحاضرة أخرى حول المشروع الثقافى ليوليو المصرية، وكيف انتقل بمصر من حالة آحاد المثقفين إلى حالة مؤسسات ثقافية عملاقة ومتكاملة، وظل يرصد ويحلل ما جرى فى المسرح والسينما والأوبرا وأكاديمية الفنون، وفى الصحافة الفكرية والثقافية كالفكر المعاصر والطليعة والكاتب والمجلات الدورية المتخصصة فى كل مجالات الإبداع الإنساني.

ثم ختم بلقطة شجاعة مثيرة موجهًا كلامه للسائل الذى كان مذيعًا مشهورًا يقدم برنامجًا ذائع الصيت عن اللغة العربية «أنا البحر فى أحشائه الدر كامن..» لعلك بسؤالك ظننت أنك سترضى المضيف بالقدح فى يوليو التى وصفتها بالانقلاب بينما هى ثورة كاملة، وستحرج المتحدث حتى يصمت عن الحقيقة.. وأنا لا أجامل ولا أحرج إذا اتصل الأمر بالحقيقة» فما كان من صاحب الدعوة والحضور إلا أن صفقوا بحرارة!

مواقف أخرى عديدة كانت تتجلى فيها السمات المتفردة للأستاذ سيد يسين، ولا أنسى جلستنا عقب مقال كتبته عن الدكتور سعد الدين إبراهيم، وتلك قصة بالغة الطرافة والعمق فى آن واحد.

رحم الله الأستاذ المعلم سيد يسين، الذى لم ينل ما يليق بعظيم مثله.. حتى من تلاميذه الذين علمهم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية