تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
مع الدكتور لويس عوض فى ذكراه
الدكتور لويس عوض (5 يناير 1915 ـــ 9 سبتمبر 1990) عقل ناصع وقلب دافئ ومجدد عظيم، لم يتعرض مفكر للتشويه والظلم كما حدث معه، فقط لأنه كان حرا ولم يخضع لابتزاز التيارات المتشددة التى تعتقد أنها الوحيدة التى تمتلك اليقين.
هو كتب عن نفسه «من أراد فكرة مجملة عن صورتي في ذهن نقادي، فهي أني باختصار في يقين بعض أدباء اليسار، قائد الفكر اليميني في العالم العربي، كما كتب عني الشاعر المبدع عبدالوهاب البياتي، وكذلك الناقد اللبناني شريف القلم عف البيان حسين مروة، وأني باختصار في يقين بعض أدباء اليمين قائد الفكر الماركسي اليساري الملحد في العالم العربي، كما كتب عني نقاد مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» وغيرهما، وفي يقين فئة ثالثة أني آخر قنصل للعالم المسيحي في مصر، منذ الحروب الصليبية، كما كتب عني الأستاذ محمود شاكر في كتابه «أباطيل وأسمار» وفي يقين فئة رابعة أني داعية فكري للقومية المصرية الفرعونية، وعدو فكري للقومية العربية، كما روى عني الأستاذ ميشيل عفلق، ونقاد مجلتي الرسالة والثقافة».
فى عام 1965 صدرت ثلاثة كتب فى هجاء صاحب «على هامش الغفران» عدا مئات المقالات التى تتهمه اتهامات ربعها يكفى للإطاحة به خارج الكوكب، فى سبتمبر1981، صدر كتاب الدكتور لويس عوض، «مقدمة فى فقه اللغة العربية»، عن الهيئة العامة للكتاب، وبعدها أرسل مجمع البحوث الإسلامية مذكرة إلى مباحث أمن الدولة، تطالب بالتحفظ على الكتاب ومساءلة مؤلفه، وفى ديسمبر من العام نفسه، تحددت جلسة أمام محكمة جنوب القاهرة، ودفع محامى لويس عوض، بأن هذه قضية لغوية تحتاج لتحكيم مجمع اللغة العربية لا إلى مجمع البحوث الإسلامية، واستجابت المحكمة وشكلت لجنة من الدكتور توفيق الطويل، وأحمد حسن الباقورى، وعبد الرحمن الشرقاوى، لكن «الأزهر» رفض هذه اللجنة.
وقال سكرتير مجمع البحوث الإسلامية، وقتها، إن المجمع جهة الاختصاص، وامتثل القاضى لهذا الرأى، وكانت أزمة الكتاب قد بلغت حد التكفير، واتهام لويس عوض بالتهجم على الإسلام، وتزوير اللغة العربية، واستهداف الثوابت الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بأصل العرب ولغتهم، وصولا لصدور توصية بمصادرة الكتاب وسحبه من السوق، وحكمت المحكمة بمصادرة الكتاب، الذى وصفه عوض بأنه «موسوعة فكريّة ولغويّة ضخمة، واختراق قويّ لعوامل العزلة والجمود التى تفصل بيننا وبين عهود ازدهار الفكر والحضارة العربيّة»، قبل ذلك وفى عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل فى الأهرام تعرض عوض لهجوم عنيف من الشيخ محمود شاكر بسبب مقالات «على هامش الغفران»، الذى كتب متسائلا : كيف يكون لويس عوض مستشارا ثقافيا لأكبر جريدة فى العالم العربى الإسلامى؟، كتب صاحب «مذكرات طالب بعثة» استقالته حتى لا يورط الأهرام فى المعركة، يحكى عوض لغالى شكرى.
«سألنى هيكل: كم مقالة تتكون منها هذه السلسلة التى تكتبها؟! فقلت: تسع مقالات: وكانت الأهرام قد نشرت المقالة الخامسة والحملة المضادة فى ذروتها، ففاجأنى «هيكل» بقوله: لتكن السلسلة تسعة عشر مقالا! قلت له: هذا بحث علمى من تسع حلقات فلا يمكن الإضافة إليه! قال هيكل: هذه الأهرام تمثل قلعة للاستنارة، فإذا انتصروا علينا قل على مصر العفاء!! وكان يقصد أصحاب الحملة وما يمثلونه من فكر! قلت له: ولكنى محرج لأنهم يؤلبون عليّ وعليكم الشعور الديني! فقال: هذه معركتنا ومصر قلعة التنوير فى العالم العربى وإذا سقطت سقط كل شىء، للمعركة أبعاد تتجاوز الأشخاص».
لويس عوض الذى أحب العقاد وسلامة موسى وتتلمذ على يد طه حسين، الشاعر والناقد والمفكر والمترجم الذى يجيد أربع لغات، يضيق المكان بسرد إنجازاته ومعاركه، كان يخفى خلف ملامحه التى تبدو متجهمة ابتسامة صافية صادقة، أسعدنى زمانى بالاقتراب منه، فى أول لقاء معه شتاء 1987 كنت أعبر بصحبة الأستاذ ابراهيم منصور رحمة الله عليه بجوار مقهى ريش أيام كان ملتقى لنجوم الثقافة، فإذا به يستنجد بصديقه لكى يجيب عن سؤال يطرحه عليه صحفى مستفز يصدر كتابا كل أسبوعين، السؤال كان «منذ متى وأنت ماسونى يا دكتور؟».
بالطبع ابراهيم منصور بطريقته المحببة حول الموضوع الى كوميديا وساعدته فى ذلك، وأشرك رواد المقهى فى الموضوع، لم أصدق وقتها أننى أجلس الى صاحب «تاريخ الفكر الحديث» و«بلوتولاند»، فى فترة مرضه الأخيرة والتى كان يعالج فيها من سرطان المخ فى المستشفى الاستثمارى فى الدقى، كنت أذهب اليه نيابة عن الدكتور غالى شكرى اذا كان مشغولا، لأقرأ له الصحف، كان يبدأ قراءة الأهرام من صفحتى الدولة، ثم الوفيات، ثم أعمدة الرأى، مرة طلب منى النزول للاتفاق مع تاكسى على مشوار إلى دهشور، حيث بيته الآخر، كان يسكن أصلا بجوار دار الحكمة فى شارع قصر العينى مع زوجته التى حولت الشقة الى حديقة حيوانات، مررنا على الحاج مدبولى فى ميدان سليمان باشا للحصول على جزء من مستحقات «أوراق العمر» أجمل وأصدق مذكرات فى الأدب العربى، والممنوعة أيضا، ولكن بسبب العائلة، فى هذه المرة لم يكن فى أناقته المعهودة، وكان قد وعد إعلاميا شهيرا باستئناف التصوير هناك، وكان يريد عقابه، بعد أن استأجر معدات الإضاءة وانتظر من أول النهار، كان هذا الإعلامى قد حدد له محور المناقشة، وهو «ما هو إحساسك وأنت مقبل على الموت؟».. وفى الوقت نفسه كان هناك عمال يغيرون ثلاث عتبات فى المنزل، واحتد عليهم وقال لهم إن العتبات الجديدة لن تعيش عشرين عاما، وحين أطلعت سائق التاكسى على حالة الدكتور وأنه فى أيامه الأخيرة لم يتوقف عن البكاء حتى وصلنا الى الدقى.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية