دعاني أحد الأصدقاء القدامى من أبناء النوبة الكرام على مائدة الإفطار التي تقام - في هذا الشهر المبارك – بشكل جماعي أمام البيوت في مختلف القرى النوبية، ولم تكن تلك الدعوة التي بادر بها صديقي الجنوبي تلك تقتصر على تناول الأطعمة الشهية ذات الطابع النوبي المميز فقط، بل كانت بجانب كل هذا وذاك مدخلًا مهمًا في التعرف على ثقافة أبناء هذا المجتمع.

وأثناء جولتي الميدانية في أرجاء تلك القرية التي ينتمي إليها وليد عبد الحميد، المدرس بإحدى المدارس الثانوية، لاحظت الكثير من النقوش والرسومات ذات الأشكال الهندسية على جدران البيوت في الداخل والخارج، وعلى الأبواب والشبابيك الخشبية، وعلى جوانب المصاطب (المجالس) بألوان طبيعية زاهية، ولم أكن أعلم مطلقًا أن هذه الأشكال الهندسية المختلفة تحمل - وفقًا لثقافة أبناء ذلك المجتمع – بعدين أساسيين، الأول  أحدهما فني تشكيلي ذو طابع جمالي، والآخر اعتقادي فلسفي ذو طابع سحري.

ومن أبرز تلك الرسوم ما يعرف بالأشكال (الثلاثية، والخماسية)، وهى تحاكي الأرقام الفردية التي تحمل دلالات رمزية خاصة، وفقًا للموروث الشعبي النوبي، الذي حدثني عنه صديقي،  والذي أوضح أن المثلث – من الناحية العلمية – أحد عناصر الهندسة المستوية، له ثلاث رؤوس، وثلاث زوايا، وثلاث أضلاع، ومجموع زواياه الداخلية تساوي (180) درجة، ومجموع زواياه الخارجية تساوي (900) درجة، ومجموعهما يساوي (1080) درجة، وحاصل جمع زواياه الداخلية التي تساوي (1+8+0) والخارجية التي تساوي (9+0+0)، ومجموع كلًا منهما التي تساوي (1+0+8+0) يساوي في النهاية الرقم (9)، وبما إنه كذلك، فهو يعد من الأشكال الهندسية المميزة التي تحاكي كلًا من الرقم (3، 9) في ذات الوقت، حيث يقابل الرقم (3) الرقم (6) في الدائرة المكونة من تسعة أرقام، ومجموعهما أيضًا يساوي الرقم (9)، لذا يعد الرقم (3، 6، 9) من أبرز الأرقام الأحادية استخدامًا وانتشارًا في مختلف المجالات والأنشطة، علمية أكانت أم عملية.

وواصل صديقي النوبي:  ويمكننا ملاحظة هذا الأمر بوضوح شديد في أي شيء (كالكيان البشري الذى يتكون من ثلاثة عناصر أساسية وهى "الجسد، والروح، والعقل"، والأهرامات الثلاثة، وفي الحضارة المصرية القديمة، وخاصًة في جزيرة إلفنتين هناك ما يعرف بـ "ثالوث خنوم" الذى يتكون من المعبود "خنوم"، وزوجته "ساتت"، وابنته "عنقت")، وكذلك في أي عمل أو نشاط يصدر عن الإنسان (مثل تثليث غسل الأعضاء الذى يعد من سنن الوضوء)، وجميعها نماذج وصور بسيطة جدًا لدلالة هذا الرقم السائد في مختلف مجريات الحياة، الطبيعية والإنسانية معًا على حدًا سواء.

ووفقًا للمرووث الشعبي النوبي، أيضا يرمز شكل المثلث باعتباره طلسم سحري يستخدم للوقاية من الاصابة بالعين الشريرة أو النظرة (الحسد)، كما إنه يدل – من الناحية الفلسفية - على علاقة العالم الأرضي بالعالم العلوي.

وفي النوبة، ترسم أشكال المثلثات – المعدولة والمقلوبة - بشكل أساسي على جدران البيوت في الداخل والخارج، وعلى الأبواب والشبابيك الخشبية، وعلى جوانب المصاطب أو المجالس المبنية أمام البيوت، وأيضًا على بعض القطع من المصوغات الذهبية التي ترتديها المرأة النوبية)، وذلك لما لها دلالة رمزية – فنية واعتقادية – خاصة، تجسد طريقة التفكير المسيطرة على عقلية هذا المجتمع

تعد الدائرة المغلقة أو المجوفة الخالية من الزوايا من أبرز الأشكال الهندسية استخدامًا وانتشارًا في النوبة، حيث تجسدت أشكالها في عدة صور مختلفة (كالنجمة الخماسية أو المخمسة، أو الخمسة وخمسية، أو قرص الشمس)، فالنجمة الخماسية، ترمز إلى (الروح) التي تسيطر على العناصر الأرضية الأربعة أو عناصر الكون الأربعة (كالماء، والنار، التراب، الهواء)، وهى تستخدم – وفقًا للموروث الشعبي – الذي أسهب صديقي وليد في شرحه،  للوقاية من الاصابة بالسحر.

أما الخمسة وخمسية، فهي عبارة عن خمس أصابع، أو خمس اتجاهات مختلفة، و وهى تستخدم أيضًا – وفقًا للموروث الشعبي - للوقاية من الاصابة العين الشريرة أو الحسد، بحيث لا يؤذي الشيء الذى وضعت عليه، لأن عين الحسود لم تقع على الشيء إلا بعد أن تقع على (الخمسة وخميسة)، لذا ترسم أو تنقش أو تعلق على الأشياء الجديدة التي قد تصاب بالعين والحسد، ويقال أنها كانت علي خاتم سيدنا سليمان، لذلك نجد لها علاقة بالسحر علي مر العصور، واخيرًا (قرص الشمس) الذى يرمز إلى المعبود (رع) في الديانة المصرية القديمة.