تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > سبوت : البردي.. من نبات على ضفاف النيل إلى صانع لتاريخ الإنسانية
source icon

سبوت

.

البردي.. من نبات على ضفاف النيل إلى صانع لتاريخ الإنسانية

كتب:ياسر علي

يعتزم المتحف المصري بالتحرير، خلال الفترة المقبلة، الحصول على شتلات من نبات البردي المصري المزروع بقرية قراموص بمحافظة الشرقية  لزراعته بنافورة المتحف .

وكشف الدكتور علي عبدالحليم مدير المتحف المصري بالتحرير، عن شروع إدارة المتحف بإجراء تجهيزات للنافورة، التي كان يزرع بها شتلات من نبات البردي في وقت سابق، موضحا  أن أهالي قراموص حاليًا يُنتجون النسبة الأكبر من ورق البردي، تلقى رواجًا كبيرًا في البازارات والمزارات السياحية في مختلف ربوع مصر.

عصر جديد من المدنية

وأدى "البردي" لصناعة عصر جديد من المدنيّة والحضارة وتوارث المعارف والخبرات، في حضارة مصر الفرعونية، فتحولت لأول مرة في تاريخها،  من النقش على جدران المعابد وفوق الحجارة والفخار، لصناعة الورق، ليسهم في صناعة تاريخ جديد للإنسانية.

وتقول الدراسات التاريخية ، إن المصري القديم عرف الكتابة منذ 4 ألاف سنة قبل الميلاد، وبمعرفته للكتابة تم التأصيل للحضارة المصرية القديمة، الأمر الذي تبعه تراكم المعارف وحُفِظَها لتكون زادًا ثقافيًا وعلميًا للأجيال اللاحقة في مختلف العلوم، وكان الفضل بطبيعة الحال لنبات البردي الذي عُد من أشهر النباتات التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، وصاحب الفضل على الإنسانية.

رفع مستوى الجنس الإنساني

ويُعتبر "البردي" من الباتات المائية التي تنمو في المستنقعات والأراضي الضحلة، والتي يتراوح عمقها ما بين 50 إلى 100 سم، وكان للورق المصنوع منه دورًا كبيرًا في حفظ كم هائل من المعلومات والخبرات التي توارثتها الأجيال، وهو ما أكده عالم الآثار الأمريكي جيمس هنري برستد، في كتابه "فجر الضمير": ‏كان لاختراع الكتابة واستعمال ورق البردي أثر عظيم في رفع مستوى الجنس الإنساني أكثر من أي شيء آخر، لأنه أهم من جميع الحروب التي خاض الناس غمارها، وأهم من جميع النظم أو الدساتير التي وضعت منذ خلق الله هذا الكون.

وكعادته في السعي نحو الجديد، تفوّق المصري القديم في استخدامه للبردي، فلم تقتصر استخداماته لهذا لنبات على صناعة الورق، وإنما استخدمه كمصدر من مصادر الدخل للدولة المصرية جرّاء تصديره لعدد من دول العالم القديم، كما استخدمه في صناعة القوارب الخفيفة للصعيد، والعبور إلى الضفة الأخرى من النيل، وصنع منه بعض أدوات الزينة الخاصة بالنساء، وكهنة المعابد.

كان لكل جزء من النبات استخدام خاص به، فالجزء الرخو أسفل الساق كان يُستخلص منه طعاماً شعبياً، والجزء الباقي صنعوا منه معدات ذات أغراض متنوعة، مثل الصناديق والسلال وحاملات الأمتعة، ومن مادة داخل النبات كانت تُصنع صنادل لرهبان المعابد، كما صنعوا منه القلادات والأحزمة، وأنواعاً من الحبال التي لا تتأثر بعوامل الجو ومياه النيل، الأمر الذي يؤكد أن استخدامات نبات البردي كانت كثيرة ومُتغلغلة في حياة المصري القديم.

أدوات كتابة بديلة

ويضم المتحف المصري بالتحرير، مئات الأدوات المصنوعة من البردي، لذلك رجح خبراء الآثار أن غياب البردي أو انقطاعه عن الحياة في مصر لأي سبب من الأسباب كان كفيلًا بأن يتسبب في أزمة حقيقية، ومع هذا كانت صناعة ورق الكتابة من أهم استخدامات البردي، نظرًا لما يُدرّه على الدولة من أموال جراء عملية التصدير؛ رغم ظهور الكثير من أدوات الكتابة البديلة في بلاد أخرى، مثل ألواح الطين وألواح الشمع وجلود الحيوانات، في محاولة من هذه البلدان للاستغناء عن البردي، إلا أن البردي المصري كان خارج المُنافسة وظل متربعًا على غرشه في موطنه الأصلي مصر لمدة تربو على الثلاثة ألاف عام.

ومن المعلومات التاريخية المهمة التي عرفتها عن ورق البردي، ما قاله المؤرخ هيرودوت، عن وصوله اليونان، حيث أطلقوا عليه لفظة "الجلد"، واستعمل هناك على نطاق واسع حتى القرن الخامس قبل الميلاد، وعثر على إنجيل يوحنا، وهو أول الأناجيل المكتوبة، والمفارقة أنه كان مدون على ورق البردي المصري، كما عُثر على الدساتير اليونانية القديمة مدونة على ورق البردي المصري، بالإضافة إلى بعض محاورات أرسطو أيضًا. ونظرًا لجودته وتفوقه على غيره من وسائط التسجيل؛ استُخدم في صناعة الكتب والمراسلات والوثائق القانونية والعقود التجارية.

أول كتاب من البرديات

وتحدثت العديد من الرسومات على جدران المعابد والمقابر والشواهد الحجرية عن مختلف أقسام الحضارة المصرية، إلا أن المصري القديم لم يترك لنا ما يُفيد طريقة صناعة البردي، الأمر الذي عزاه العلماء لاحتكار المصريين لصناعة البردي لأنفسهم، حتى لا يذيع سر الصناعة، فتخسر الدولة المصرية واحدة من أهم السلع التي تحقق لها عائدًا ماديًا كبيرًا.

وعثر على أول بردية في صورة كتاب بمعبد الملك "نفر كا رع"، وهو بقايا دفتر حسابات من الأسرة الخامسة، وأجزاء من هذا الكتاب محفوظ الآن بالمتحف المصري بالتحرير، أما الباقي فمحفوظ في متحف برلين وجامعة لندن، كما عثر علماء المصريات على بردية في مقبرة أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الأولى والذي يُدعى "حاكا"، وكانت هذه البردية خالية من الكتابة، إلا أنها تؤرخ لوجود البردي منذ قرابة الخمسة ألاف سنة، ويؤكد ذلك ظهور لفافة البردي الدالة على الكتابة ضمن نقوش الأسرة الأولى، والمكتوبة باللغة الهيروغليفية.

بردية ضمن الآثار المصرية المُهاجرة

كما عُثِر على العديد من البرديات الهامة في التاريخ المصري القديم، ولعل أهم هذه البرديات بلا منافس، بردية "تورين" التي عثر عليها الرحالة والمستكشف الإيطالي برناردينو دروفيتي عام 1820م، وهي ضمن الآثار المصرية المُهاجرة، والمحفوظة بمتحف تورين بإيطاليا، وتحكي تاريخ آلهة وملوك مصر القديمة، والتي تبدأ بأسماء الآلهة الذين حكموا مصر، وتتبعهم بأسماء أتباع حورس ويُقال عنهم "أنصاف الآلهة"، ثم ملوك مدينة منف، وملوك مدينة أون، إلى أن تصل إلى نهاية فترة الاضمحلال الثانية، وملوك الهكسوس.

ولم يكتف المصري القديم، بالإبداع في صناعة أوراق البردي، ولكن تفنن أيضًا في صناعة أحبار الكتابة عليها، حيث استخدم اللون الأسود المصنوع من الكربون أو الفحم البلدي، أو البودرة السودان التي كانت تكشط عن أواني طهو الطعام والتي كانت تُخلط بأنواع من الصمغ المُسال، إضافة إلى اللون الأحمر الذي صُنع من مزج أكسيد الحديديك وكميات متفاوتة من الطين والرمل. كما صنع المصري القديم أواني خاصة توضع بها الألوان، وتفنن في صناعة الأقلام المستخدمة في الكتابة من نبات السمّار الذي ينمو بشكل طبيعي على حافة البرك والمستنقعات ومازال حتى الآن.

صمم المصري القديم جدران أعمدة المعابد المصرية على صورة نبات البردي، ومن أبرز هذه المعابد، معبد الكرنك، وبعض أعمدة معبد الأقصر، وذلك عرفانًا بأهميته في الحياة المصرية القديمة، كما استخدم نبات البردي ممزوجًا مع زهرة اللوتس للتعبير عن وحدة الشمال والجنوب، أي وحدة الدولة المصرية القديمة.

تاريخ البردي ممتدا في الشرقية

ومن الأجداد للأحفاد، ما زال نبات البردي ضاربًا بجذوره في أرض مصر، ليصبح أحد أهم مصادر الدخل لدى أهالي قرية القراموص التابعة لمحافظة الشرقية، التي واصل أبنائها ما بدأه الأجداد بزراعة أول شتلة لنبات البردي في سبعينيات القرن الماضي، وبمرور خمسين عامًا من زراعة البردي، أصبحت "قراموص"، أهم قرية مصرية في زراعة وإنتاج هذا النبات الذي لا تتجاوز دورة زراعته شهرًا واحدًا ليبدأ بعدها موسم الحصاد والجمع، ويستمر حصاده لمدة 6 أشهر، من شهر مارس حتى نوفمبر.

خلال موسم الحصاد يبدأ أهالي القرية بجمع سيقان النبات وتقطيعها إلى مقاسات مختلفة حسب حجم الورق المطلوب، وبعد التقطيع يتم تحويل هذه السيقان إلى مجموعة من الشرائح توضع أعلى بعضها في صورة صفوف طولية وعرضية، ثم تبدأ عملية تجفيف هذه الأوراق اعتمادًا على الشمس، ليجف الورق ويفقد نسبة الماء والرطوبة ويبدأ الروق يأخذ شكله النهائي ويصبح جاهزًا للكتابة أ الرسم عليه.

ويُنتج أهالي قراموص حاليًا النسبة الأكبر من ورق البردي الذي يُستخدم حاليًا ليُطبع عليه في مطابع القرية فنونًا من مختلف الحقبات التاريخية المصرية، سواء إسلامية أو رومانية يونانينة أو مسيحية، أو مصرية قديمة، وتُباع هذه الأوراق كهدايا للسياح، وتلقى رواجًا كبيرًا في البازارات والمزارات السياحية في مختلف ربوع مصر.


 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية