تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أخلاق المصرى القديم

ارتبط العنف بالإنسان البدائى فى الأزمنة القديمة.. وكيف لا وهو يعيش فى الغابات والأحراش.. فى قلب الطبيعة البكر المتوحشة.. يفعل ما بدا له.. البطش.. القتل.. والعراك سلوك عادى متوارث يمارسه بالفطرة..هذا العنف المتفشى كان مدمرا للحياة الجماعية، ولهذا ظهرت محاولات لا للقضاء عليه ولكن لاحتوائه وتغيير مظاهره أو ربما تحويل مجراه إذا جاز لنا التعبير..فعرف البشر ظاهرة كبش الفداء وتتمثل فى اختيار شخص واعتباره سبب المصائب والشرور وإطلاق طاقة العنف الجماعى ضده، وممارسات أخرى يتم فيها اختيار أيام احتفالية تسمى بالكرنفالات يطلق فيها العنان لكل صور العنف تعقبها أشهر من الهدوء والسكينة..

هذه الممارسات السحيقة استمرت مع البشرية قرونا طويلة وتجسدت فى صور أخرى مثل مباريات المصارعة حتى الموت بين العبيد والوحوش فى مسارح الامبراطورية الرومانية وحرق الساحرات والزنادقة والهراطقة فى القرون الوسطى. وكلها كانت عروضا للفرجة ومتعة للجمهور.

حملت الحضارة المصرية عند بزوغها مسلكا مغايرا فى التعامل مع ظاهرة العنف.. إذ كانت هذه الحضارة العظيمة تنبذ العنف بكل أشكاله.. فالأخلاق المصرية كانت تهدف إلى استئصال هذا السلوك برمته من الحياة الإجتماعية.. ولأن الحضارة المصرية هى حضارة زراعية فى المقام الأول.. تقوم على الاستقرار والحياة الساكنة الهادئة.. كان من الطبيعى أن يبحث المصرى القديم عن الأمان والأمن ويؤسس معه مفاهيم عديدة عنوانها التسامح والمحبة والإخلاص وكل المبادئ الإيجابية التى صارت دستورا لحياته..هذه الأخلاق كان لها رموزها الدينية التى تتمثل فى الآلهة ماعت، آلهة الحق والعدل والعلم فى الكون..فكانت هناك صلة وثيقة بين الدين والأخلاق.. فالدين عنوانه لدى المصرى القديم التسامح.. ورغم تعدد الأديان وتعدد الآلهة وتعدد طرق العبادة فى تلك الحقبة إلا أن التسامح كان سائدا فى حياة المصرى القديم..وكانت العدالة دستورا قائما بينهم، إذ يندهش المرء كثيرا حينما يتأمل كيف كانت تفاصيل حياته اليومية تقوم على هذا المبدأ العظيم بشكل تلقائى طبيعى..

يقول نص من الاسرة الثانية عشرة على لسان رع: خلقت الرياح الأربع لكى يستطيع كل إنسان أن يتنفس مثل أخيه وخلقت المياه الغزيرة كى يستخدمها الفقير والسيد، وخلقت كل فرد مشابها لأخيه ومنعت البشر من ارتكاب الظلم. على سبيل المثال حينما كان الفيضان يغمر الأرض وينحسر بعد ذلك فتتغير المساحات وتختلف عن السابق.. كان المصرى يعيد توزيعها من جديد ليس طبق الأصل ولكن حسب النسب الجديدة التى أصبحت عليها.. كل يأخذ نصيبه ونسبته من الأرض وفق الحالة الجديدة التى طرأت عليها..فيتم قياس الأرض مرة أخرى ويتم توزيعها بالعدالة بين المستحقين.. الكل راض وقانع.. فهو يدرك تماما أنه أخذ حقه بالعدل والقسطاس.. ومن هنا تحديدا ظهر قانون النسبة والتناسب..العلم إذن لدى الفراعنة مرتبط بالأخلاق.. فهو لا يحقق فقط سبل الراحة والتقدم لدى الأفراد ولا يكتفى بإشباع فضولهم للمعرفة، بل يشغل نفسه أيضاَ بالمساواة بينهم دون تفرقة بين ثرى وفقير.. وهذا الهم هو الذى جعل علوم الرياضيات تسبق فى وجودها علوم الطبيعة.

هل رأيتم سادتى مثل هذه العدالة الرائعة فى أى مجتمع من المجتمعات الحديثة؟

كان المصرى القديم يقدم القرابين للكهنة وهى حية.. والسبب فى ذلك أن هذه القرابين تتم العناية بها ثم تستخدم فى إدارة الأزمات ونجدة المنكوبين.. إنه هنا يمتثل لطاعة الكهنة وفى نفس الوقت يفكر فى الآخرين.. كيف يقدم لهم المساعدة والعون فى أوقات الشدة..

وإذا كانت فضيلة الأخلاق التى أسسها فلاسفة الغرب وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو والتى تقوم أساسا على فكر التعامل بالمثل مع الآخرين من خلال تلك المبادئ المعروفة: ما لا ترضاه لنفسك لاترضه للآخرين..أو مبدأ عامل الآخرين بما تحب أن يعاملوك به فإن المصريين القدماء قد تجاوزوا ذلك الفكر..ففى التعامل بين الزوجين توصى بردية آنى الحكيم المصرى الزوج: عامل زوجتك برفق واظهر لها حبك فما تحصل عليه بالرقة يفوق ما تحصل عليه بالعنف وقدم لها العطور والزينة فلها مفعول السحر.

فضيلة الأخلاق لا تشمل فقط التعامل الطيب مع البشر.. بل تتسع لتشمل كل الكائنات الأخرى مثل الحيوانات والطيور.. وتتسع أكثر وأكثر لتشمل أيضا الطبيعة.. فالمصرى القديم لا يلوث النيل، فهذا فعل مشين لا يقوم به.. ولا يتعرض كذلك لأذى الحيوانات.. فهى تشاركه فى الحياة وتجاوره فى الأرض..

نقش المصرى القديم على الأحجار أهم البنود الأخلاقية التى يتبعها فى حياته وكأنه يؤكد لكل أفراد الشعب أنها بنود أساسية يجب أن يتبعها الجميع دون تفرقة.. وهى تشمل جميع مناحى الحياة التى تحيطه من سلوكياته الشخصية إلى تعاملاته مع الآخرين إلى حفاظه على النهر واهتمامه بالحيوان والنبات: «لم أكذب ، لم أسرق، لم أملأ قلبى كرها، لم أسئ معاملة الناس، لم أسبب ألما لأحد، لم أكن سبباَ فى دموع إنسان، لم أكن سببا فى شقاء حيوان، لم أعذب نباتا: بأن نسيت أسقيه ماء، أطعمت الجائع، ورويت العطشان، وكسوت العريان، لم ألوث ماء النيل، ملأت قلبى بالحق والعدل».

هكذاعاش المصرى القديم.. يبث القيم الأخلاقية النبيلة.. يضع نصب عينيه سعادة واستقرار وأمان أفراد مجتمعه.. رافعا شعار العدالة والمساواة والانضباط والاستقامة.. ولكل هذا تستحق الحضارة المصرية القديمة توصيفها بأنها فجر الضمير.

والسؤال الذى يشغل بالى وأحسب أنه يشغل بال الكثيرين أيضا: ماذا حدث لأحفاد المصرى القديم؟

كيف أصبح حالهم هكذا؟ كيف تراجعت الأخلاق والقيم على هذا النحو؟

من يملك إجابة عن هذا السؤال الصعب؟.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية