تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
سر قصيدة البردة للبوصيرى
تكلمنا الشهر الماضى عن فكرة أن الحب أصل الوجود. يقول ابن عربى «الحب سر إلهى يعطى فى كل ذات على حسب ما يليق بها». وحب الله هو المقصود وحده فى الفكر الصوفى.
بعد أن يوضح فى بداية القصيدة أهمية الحب يتساءل البوصيرى عن عمره؟ ها هو قد وصل إلى الشيخوخة، فماذا أنجز؟ ومتى مر به العمر؟ نفس البوصيرى «اللوامة» تخبره أن الباقى من العمر قصير وربما لن يكفى للتكفير عن ذنوبه.
نذكر القارئ أن النفس لها ثلاث أجزاء، المطمئنة، اللوامة، والأمارة بالسوء.
يقول البوصيرى:
١٣ ــ فإنّ أمّارتى بالسّوء ما اتّعظت
من جهلها بنذير الشّيب والهرم
١٤ــ ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى
ضيف ألمّ برأسى غير محتشم
جاء ضيف الشيب دون سابق إنذار ودون خجل. ولم تتعظ النفس فى الماضى ولا أدركت قصر العمر فاتبعت السوء والهوى ولم تجن سوى الذنوب. أسئلة كثيرة يسألها ويشرح حينها أن النفس الأمارة بالسوء تحتاج من يسيطر عليها ويمنع عنها اللذات الضارة. فهى كما الطفل الذى لابد أن يفطم عن الرضاعة. وكما الخيل الذى يحتاج إلى اللجام.
١٨ــ والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على
حبّ الرّضاع، وإن تفطمه ينفطم
١٩ــ فاصرف هواها وحاذر أن تولّيه
إنّ الهوى ما تولّى يُصِم أو يَصمِ
وهنا نذكر قول الشاذلى، أستاذ أبو العباس المرسى الذى هو أستاذ البوصيرى عن هوى النفس الذى هو عكس محبة الله فيقول الشاذلى: «عليك بورد واحد، إسقاط الهوى ومحبة المولى، أبت المحبة أن تستعمل محبا إلا فيما يوافق محبوبه».
بالنسبة للشاذلى القرب من الله ليس فقط بكثرة الصيام والصلاة والأوراد والأذكار، بل بالسيطرة على هوى النفس واتباع كل ما يحب الله. وفى كتب ابن عطاء المقولة الرائعة:
«نحت الجبل بالأظافر أيسر من زوال الهوى إذا تمكن».
ولكن البوصيرى يجد فى الشبع والجوع فتنة فربما كان الجوع يؤدى بالفرد إلى ارتكاب الآثام. هنا هو يتكلم عن نفسه ومحنته مع الفقر. لذا بعد ذلك سيتحدث عن تجربة النبى فى الجوع والشدة والخلوة وكيف انتصر على نفسه.
ولكنه يذكّر نفسه قبل أن يبدأ كلامه عن النبى محمد (عليه الصلاة والسلام) بأن الدين عمل وليس قولا. فلابد ألا تنصح الآخرين بما لا تستطيع أنت.
٢٦ــ أستغفر الله من قول بلا عمل
لقد نسبت به نسلا لذى عقم
٢٧ ــ أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
وما استقمت، فما قولى لك استقم؟
ـــ ثم يبدأ فى مقارنة أعماله بالنبي. فهو المثل الأعلى. ويدرك أنه ظلم سنته. فأول ما تكلم عنه البوصيرى هو خلوة النبى وروحانياته (كما الصوفية) وتحمله للشدائد والجوع والألم. يذكر نفسه أول شيء. ولا يبدأ القصيدة بمولد النبي. النبى فى قصيدة البردة هو إنسان نقتدى به وبتحمله وجلده وجهاده الداخلى وهو أيضا حامل للرسالة وموجه بالقرآن ومتمم مكارم الأخلاق. لابد من فهم هذا فى قراءة القصيدة حتى لا تلتبس المعاني.
٢٨ ــ ظلمت سنّة من أحيا الظّلام إلى
أن اشتكت قدماه الضّرّ من ورم
٢٩ــ وشدّ من سغب أحشاءه وطوى
تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
ها هو النبى القدوة يقضى ليله فى الصلاة والخلوة ويشد على بطنه الحجر ليكتم جوعه، ولكنه قوى لا يؤثر فيه حلم ثراء وذهب ولا دنيا فانية. هنا ينظر إلى النبى كمعلم ويخجل من نفسه. هنا نفس البوصيرى اللوامة تتكلم مع نفسه الأمارة بالسوء وتلومها؟ ولكن أين نفس البوصيرى المطمئنة هل لها مكان فى شيبته يا ترى؟
من هو الحبيب الذى تكلم عنه فى البداية؟ النبى هنا هو الحبيب. هو من تحمل وجاهد نفسه.
فيقول:
٣٦ــ هو الحبيب الّذى ترجى شفاعته
لكلّ هول من الأهوال مقتحم
لاحظ أن البوصيرى يتكلم أولا عن الجهاد الداخلى وليس الخارجى للنبى لأنه أصعب. يتكلم عن محنة النبى ووقاية الله له فى الغار فحماية الله لا تحتاج الدروع والحصون.
فيقول:
٧٩ــ وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدّروع وعن عال من الأطم
موقف الغار يذكّر فيه البوصيرى نفسه هو، فى محنته هذه، إن وقاية الله تغنى عن كل شيء. ثم يذكر نفسه أنه عندما يتذكر سنته ويعتبره المثل الأعلى تنتهى كل مشاكله دوما.
بعد ذلك يبدأ فى الكلام مع النبى مباشرة بعد أن تكلم مع النفس اللوامة وتكلم عن النفس الأمارة بالسوء. استعمال «يا» يدل على قرب المسافة والقرب من القلب كأن الرسول حاضر أمامه. ينشد:
١٠٥ــ يا خير من يمّم العافون ساحته
سعيا وفوق متون الأينق الرّسم
أى يا أكرم من قصده الناس سواء مشيا أو راكبين.
يخبرنا البوصيرى عن هدف هذه القصيدة وهو أن يمدح النبى ويحكى عن سيرته فيرجو مغفرة الله عن كل عمره الذى قضاه فى مدح من لا يستحق وخدمة نفسه وغيره بلا فائدة لقلبه.
١٤٠ــ خدمته بمديح أستقيل به
ذنوب عمر مضى فى الشّعر والخدم
يتكلم مع نفسه، ومرة أخرى تعود النفس اللوامة للحديث. ويوضح غرضه من هذه القصيدة وهو أن يعوض عمرًا ضاع فى شعر يخدم به أغراضه هو ويمدح من لا يستحق المدح.
ثم يتكلم عن تجربته وقربه من الطمأنينة منذ أخلص نيته فى شعره لمدح النبي.
فيعود إلى الكلام المباشر مع النبى بعد أن هدأت نفسه بعض الشيء. ولكنه لم يزل يفكر فى العمر الباقى والعمر الفائت والذنوب.
١٥٢ــ يا أكرم الخلق ما لى من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
هنا هو يلوذ بالقرآن الذى يحمله النبى فيلوذ بالرسالة وبالقدوة.
ثم مرة أخيرة يتكلم مع نفسه التى بدأت فى الاطمئنان. وتذكره نفسه المطمئنة التى ظهرت مع نهاية القصيدة أن رحمة الله شاملة. يذكر نفسه بهذا وهناك تناص بالطبع مع الآية الكريمة «لا تقنطوا من رحمة الله».
١٥٥ــ يا نفس لا تقنطى من زلّة عظمت
إنّ الكبائر فى الغفران كاللّمم
١٥٦ــ لعلّ رحمة ربّى حين يقسمها
تأتى على حسب العصيان فى القسم
ثم بعد أن هدأت النفس يبدأ فى الكلام مع الله مباشرة بالمنادى (يا) «يا ربّ واجعل رجائى غير منعكس» هذا يدل على القرب والراحة. اقترب البوصيرى مع قرب نهاية قصيدته من الله. فيأتى أجمل بيت فى القصيدة ليعبر عن التجربة الإنسانية بكل ضعفها وتناقضها وبحاجتها إلى الله فى دعاء مباشر لله باللطف به قائلا:
١٥٨ــ والطف بعبدك فى الدّارين إنّ له
صبرا، متى تدعه الأهوال ينهزم
يلخص مأساة الإنسان على مر الزمان. فصبره أمام المصائب والأهوال دوما منهزم. ودون لطف الله لا نجاة له. النفس المطمئنة تتكلم فى نهاية القصيدة وتنتصر على النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء. وما أن تدخل الطمأنينة قلب البوصيرى حتى يشفى من مرض بدنه أيضا. تجربة البوصيرى الإنسان تجربتنا كلنا فى البحث عن الاطمئنان. هنا يكمن سر خلود هذه القصيدة . لها ثلاث أجزاء، المطمئنة، اللوامة، والأمارة بالسوء.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية