تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
إبراهيم سنجاب.. أتى من سبأ بنبأ يقين!
فى قلبه انضباط ضابط وفي عقله مفاتيح أمن قومي، وفى صداقته احترام كبير للمسئولية ليكون صاحب صاحبه وملو هدومه ليرضى عنه والده الذى مات منذ سنوات طويلة!
هو إبراهيم سنجاب الابن المدلل للشيخ بدوى سنجاب شيخ مشايخ الناحية وابن الأزهر الشريف ومربى الأجيال وأحد أبطال المقاومة فى سيناء، حرص الولد أن يثبت طول الوقت أنه الناصح الشاطر وسط أقرانه، يدافع عن حقه باستماتة ويجادل بلباقة أقرب الى المنطق منها الى العنف، يكره الطعن فى الظهر، يملك ناصية المواجهة والقضايا ويفهمها، مثله الأعلى كصحفى هدهد سليمان يعشق المغامرة والمسئولية كما يعشق بلاد بلقيس، ويكره نعومة السناجب التى حملت اسمها عائلته، لما تمثله من الحذر والتردد، فى رقبته دائما تعاليم أبيه يتذكرها حلقة فى ودنه « خليك ملو هدومك، وكل اصحاب اخوتك الكبار فى منزلتهم.. وآبائهم فى منزلة أبيك.. وكل سيدات القرية أمك.. وشرف بناتها من شرف اخواتك، أما زملاؤك وزميلاتك فلهم عندى ما لك إن عشت، وعليهم نحوى ما عليك!
ومنذ تعارفنا قبل عشرين سنة ارتاح للاقتراب منه، ولا أمل مناقشاته واستشرافه للمستقبل، فى احلامه دائما خبطة صحفية يطاردها كانه عاش ليستكمل ملامحها وجوانبها ومصادرها، لكنها لم تنضج بعد، سافر واغترب من أجلها، اعتبر صنعاء وعدن فى أقصى الجنوب، ودمشق وحلب فى الشمال هم عمق مصر الحقيقي، مدين لـ جمال عبد الناصر بعلاج والده البطل على نفقة الدولة، وأنه تنبه مبكرا وأوفد السادات لزيارة القدس فى الخمسينيات ، وأتحفنا سنجاب بتحقيق مصور عن الزيارة، وتخيل أن السادات عاد محملا بوعد قطعه على أهلنا فى أولى القبلتين وثالث الحرمين، نفذه بـ"مغامرة" السلام التى دفع ثمنها عمره، وعادت بسببها سيناء قبل أن يطويها النسيان والخذلان العربي،
وفى سبيل الخبطة الصحفية التى سيتحدث عنها القاصى والدانى قرأ كثيرا فى السياسة ونجيب محفوظ وهضم يوسف إدريس، وتحليلات هيكل، وترك نبأه العظيم ينضج على نار هادئة، وانشغل بالصحافة كوظيفة مؤقتة، بدأها فى كلية الإعلام، ومن الخدمة فى الأهرام عبر إلى سيناء مراسلا ثم عاد للمحافظات وقسم الشئون العربية طائرا زار قبائل اليمن وعاش بين أهل «الفولاتي» فى موريتانا، والخط الأزرق بجنوب لبنان، وزرق الدموع فوق الجولان الاسير، ثم حط رحاله مديرا للتحرير ومشرفا على قسم التحقيقات، لا يعترف بحدود ولا بتكليفات رسمية ولا بقدرات صحية ولا بمحاذير ولا ممنوع التدخين وممنوع الاقتراب، والتصوير والكتابة!!
أتى مرة بمبادرة أقرب الى رسالة حسن نوايا من اليمن، واعتبر عدم النشر وساما على صدره ، وعاش مزهوا بقناعاته السياسية ورهاناته على الشعوب في اليمن وسوري وفلسطين الأبية، التى أثبتت الأحداث منطقية خياراته وعلاقاته العابرة للحدود!
موهوب بقدرته الفذة على خلط الجد بالهزار وخلط المهارة بشوية دلع ودندشة، ولا بأس من شوية رخامة لا تخرج عن حدود الود والاحترام،سجل حياته فى كتابه الوحيد «يوميات عيل رخم» فهم البعض عنوانه مجرد خدعة تستهدف استدراج القارئ للدخول فى عالمه الرحب الشقى بكل ما فيه من فروسية وأفراح وأحزان وأحلام تتبخر فى الهواء، لكنه بحق كما قال زميلنا الاستاذ أسامة فرج كاتب فريد ولغته العامية لذيذة خفيف الظل ذكي، ومنتبه بشدة في يومياته لكل شاردة وواردة تمر فى حياته، من أصداء موت «أبونا جمال» فى القرية عام ١٩٧٠ حتى صواريخ نصر الله التى هزت عرش البيت الابيض!
كان إبراهيم يعتبر الأهرام مظلتنا وشمسنا وغطانا، ونفذ العديد من الحملات التى تتسق مع حلمه وضميره عن النيل وبحيرة المنزلة وعواقل سيناء، مدفوعا بتشجيعات غالبا وعين حمرا احياناً وتحذيرات اغلبها من الأطباء، لكنه لم يستسلم ويرفع الراية البيضاء، ويخلع كوفية المقاومة!
تحدثنا فى العيد كالعادة، كنت أمر أمام بيتهم بقرية ميت محسن فى طريقى الى قريتنا، اتصلت به للحصول على تأشيرة المرور: انت سايب الدكر البط بتاعكم واقف على شط الترعة على حل شعره؟.. حلف بالطلاق تلاتة لو دخلت سأمرهم يضعونه فى شنطة العربية لو مفيش عندك وقت تتغدي معاهم، فقلت له لازم تكون موجود، انت فين؟ ..
فحكى لي: حسيت بنغز بسيط ورفرفة في صدري، فدخلت المستشفى واستغربت من حالة الخوف على وش الطبيب، وهو ينظر فى الاشعة الملونة على القلب والرئتين، والتى ركنتها فى السيارة منذ أسبوع، وسألنى الطبيب: هل أنت متأكد أن هذه الاشعة مش مسروقة؟ ولمَّا أكدت له أنها لي، فقال: مستحيل ..ان ما تسجله الاشعة يعنى ان صاحبها لا يقوى على الحركة ولا الكلام ولا حتى التنفس، فقلت له ازاى اكون ميت، وأنا جاى من الأهرام سايق عربيتى بنفسي!
هكذا بسهولة .. بعد رحلة قطعها سنجاب ماشيا وسائقا وطائرا، ومحققا ومنطلقا وراء حلمه الصحفي المحجوب في حرص دائم على أن يكون ملو هدومه، رحل صديقى إبراهيم بدوى سنجاب إلى رحمة الله، واكتمل برحيله الصادم نبأه ونبأ هذه الدنيا العظيم!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية